رئيس التحريرسياسة

الانتخابات الألمانية 2025: تحولات سياسية كبرى وتداعياتها على أوروبا والمهاجرين

بقلم بهجت العبيدي … رئيس التحرير

في الرابع والعشرين من فبراير 2025، كانت ألمانيا على موعد مع انتخابات برلمانية حملت في طياتها مفاجآت مدوية، لم تقتصر على الداخل الألماني فحسب، بل امتدت تداعياتها لتشمل أوروبا بأسرها. وكشفت نتائج الانتخابات عن تحولات جوهرية في المزاج السياسي الألماني، حيث حقق الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU) تقدمًا ملحوظًا بحصوله على 28.5% من الأصوات، بينما جاء حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، المعروف بمواقفه اليمينية المتشددة، في المرتبة الثانية بنسبة 20.5%، متجاوزًا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، الذي لم يحصد سوى 16.1%، في انتكاسة سياسية قد تُعيد تشكيل المشهد الحزبي في البلاد.

فوز الاتحاد المسيحي: رغبة في الاستقرار أم حنين إلى الماضي؟

يعكس تفوق الاتحاد الديمقراطي المسيحي رغبة ملحة لدى شريحة واسعة من الناخبين في العودة إلى سياسات أكثر محافظة، بعدما شهدت ألمانيا خلال العقد الأخير تحديات اقتصادية وسياسية متزايدة، أبرزها أزمة الطاقة، والهجرة، والتضخم. وقد أكد فريدريش ميرتس، زعيم الحزب، أن المرحلة القادمة ستشهد إعادة ضبط الأولويات السياسية بما يحقق استقرارًا اقتصاديًا واجتماعيًا، مع التركيز على الأمن الداخلي وتعزيز دور ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.

لكن يبقى التساؤل قائمًا: هل يمثل هذا الفوز تأكيدًا على ثقة الناخبين في الاتحاد المسيحي، أم أنه مجرد تصويت عقابي للحكومة الحالية؟ في ظل حالة التذبذب التي أصابت الناخب الألماني، يبدو أن الإجابة تحمل قدرًا من التعقيد، إذ يتداخل الشعور بالإحباط من أداء الحزب الاشتراكي الديمقراطي مع الحنين إلى سياسات أكثر حسمًا في التعامل مع القضايا الراهنة.

صعود البديل من أجل ألمانيا: لحظة فارقة في السياسة الألمانية

الحدث الأبرز في هذه الانتخابات كان بلا شك تحقيق حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) تقدمًا غير مسبوق، ليتحول إلى القوة السياسية الثانية في البلاد. هذا الصعود، الذي كان يُنظر إليه قبل سنوات كاحتمال بعيد، يعكس تحولات بنيوية في وعي الناخب الألماني، حيث يتزايد القلق تجاه قضايا الهجرة والهوية الوطنية.

وقد أثار دعم شخصيات عالمية، مثل إيلون ماسك، للحزب، الكثير من الجدل، حيث اعتبر البعض أن هذا التأييد يعزز النزعة الشعبوية، بينما يرى آخرون أنه تعبير عن رفض السياسات التقليدية التي لم تنجح في معالجة مشكلات البلاد. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الصعود إلى استقطاب حاد داخل المجتمع الألماني، مع تزايد الضغوط على الأحزاب التقليدية لتبني سياسات أكثر صرامة تجاه قضايا الهجرة والأمن.

الحزب الاشتراكي الديمقراطي: خسارة ثقيلة وتحديات مصيرية

على الجانب الآخر، كانت الانتخابات قاسية على الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، الذي سجل أسوأ نتائجه منذ عقود، مما يضع المستشار أولاف شولتس في موقف صعب. وقد أقر شولتس بمسؤوليته عن هذه الخسارة، مؤكدًا أن النتائج تعكس حالة الإحباط الشعبي من أداء الحكومة، خصوصًا فيما يتعلق بالاقتصاد والهجرة والطاقة.

تأثير الانتخابات على أوروبا والنمسا: معادلة جديدة في السياسة الأوروبية

لم تكن هذه الانتخابات مجرد شأن داخلي ألماني، بل امتد تأثيرها إلى قلب السياسة الأوروبية. فألمانيا، باعتبارها القوة الاقتصادية الكبرى في الاتحاد الأوروبي، تلعب دورًا محوريًا في رسم سياسات القارة، مما يجعل أي تغيير سياسي فيها مؤثرًا على دول الجوار.

فوز الاتحاد المسيحي يعزز التوجه نحو سياسات أكثر تقليدية، قد تؤدي إلى استقرار مؤقت في منطقة اليورو، لكن في المقابل، فإن صعود اليمين المتطرف يثير قلقًا بالغًا لدى العواصم الأوروبية، حيث تخشى الحكومات من تمدد هذه الظاهرة إلى دول أخرى، مما قد يؤدي إلى تحديات جديدة داخل الاتحاد.

أما النمسا، التي تجمعها بألمانيا روابط تاريخية وثقافية وثيقة، فقد تابعت الانتخابات عن كثب. فنجاح الاتحاد المسيحي قد يعزز من التعاون بين برلين وفيينا، خاصة مع التقارب الأيديولوجي بين الحكومة النمساوية وحزب الاتحاد المسيحي. لكن في الوقت ذاته، فإن صعود حزب البديل من أجل ألمانيا يثير تساؤلات حول مستقبل سياسات الهجرة في النمسا، حيث قد يدفع الأحزاب الحاكمة إلى تبني سياسات أكثر تشددًا لمجاراة التوجه الألماني الجديد.

المهاجرون والمسلمون والعرب: تحديات جديدة في الأفق

الانعكاسات المباشرة لهذه النتائج ستطال بلا شك المهاجرين، خصوصًا المسلمين والعرب، الذين قد يجدون أنفسهم أمام واقع أكثر تعقيدًا. فمع تزايد نفوذ حزب البديل من أجل ألمانيا، قد تتجه السياسات الحكومية نحو مزيد من التشدد في قضايا الهجرة والاندماج، وهو ما قد يؤثر على الحقوق الاجتماعية والقانونية للمهاجرين.

وفي المقابل، فإن فوز الاتحاد المسيحي قد يحمل بعض التطمينات، خاصة أن قيادته أكدت أنها لن تسمح بتصاعد الخطاب الشعبوي المتطرف، وستعمل على تحقيق توازن بين حماية الأمن القومي وضمان حقوق المهاجرين. لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن المعتدلون في السياسة الألمانية من كبح جماح التيارات اليمينية المتشددة، أم أن البلاد ستشهد تحولات أعمق في بنيتها السياسية والاجتماعية؟

نحو مستقبل سياسي غير واضح المعالم

ما أفرزته الانتخابات الألمانية لعام 2025 ليس مجرد تغير في الأرقام أو نسب التصويت، بل هو انعكاس لمناخ سياسي متحول، يعكس تطورات أعمق في الفكر السياسي الألماني والأوروبي. ففي ظل استقطاب متزايد، تبدو ألمانيا مقبلة على مرحلة من إعادة تشكيل التحالفات، سواء داخل الحكومة أو في علاقاتها الأوروبية.

وما ستكشفه الأيام القادمة هو ما إذا كانت الأحزاب الألمانية قادرة على تجاوز خلافاتها وتشكيل حكومة مستقرة، أم أن البلاد ستدخل في مرحلة من التجاذب السياسي قد تمتد آثارها لسنوات. ويبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين متطلبات الأمن والاستقرار، وضمان استمرار القيم الديمقراطية التي لطالما ميزت ألمانيا كواحدة من أقوى الديمقراطيات في العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى