رئيس التحريرسياسةغير مصنف

تباين التقارير الأمريكية حول المنشآت النووية الإيرانية: لعبة الشطرنج الاستراتيجية

بهجت العبيدي رئيس التحرير

في دهاليز السياسة الدولية المعقدة، حيث تتشابك المصالح وتتصارع القوى، يبرز موضوع تباين التقارير الأمريكية حول فعالية الضربات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية كلوحة فنية غامضة، تستدعي التأمل والتحليل. إن هذا التباين، الذي قد يبدو للوهلة الأولى مجرد فوضى معلوماتية، ليس عشوائيًا بأي حال من الأحوال، بل هو نسيج محكم من الأهداف الاستراتيجية المتعددة، التي تُحاك بخيوط الدبلوماسية والردع والغموض المتعمد. إنه أشبه بلعبة شطرنج عالمية، حيث كل حركة، وكل معلومة، وكل تضارب في الروايات، يخدم غاية أعمق في هذا الصراع الجيوسياسي المحتدم.

إن التضارب الظاهري في التقارير الاستخباراتية حول فعالية الضربات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية ليس مجرد صدفة، بل هو انعكاس لعدة أهداف استراتيجية محتملة، تُستخدم ببراعة في لعبة الشطرنج الدولية.

1. الضبابية المتعمدة: فن الغموض البنَّاء
تُعد استراتيجية “الغموض البنَّاء” (Strategic Ambiguity) حجر الزاوية في النهج الأمريكي تجاه الملف النووي الإيراني. فواشنطن، بتبنيها لهذه الاستراتيجية، تسعى إلى إبقاء جميع الخيارات مفتوحة، دون الالتزام بمسار واحد. وعندما تتضارب التقارير، فإن ذلك يخدم أغراضًا متعددة، تهدف جميعها إلى تعزيز الموقف الأمريكي:

• الضغط على إيران: إن الإيحاء بأن الضربات التي وقعت قد كانت فعالة جدًا، حتى لو كانت المعلومات غير قاطعة أو متضاربة، يمكن أن يزيد من الضغط على طهران. هذا الضغط يهدف إلى دفع النظام الإيراني نحو طاولة المفاوضات، أو تقديم تنازلات جوهرية بشأن برنامجه النووي. فالتهديد المبهم، الذي لا يتضح مداه أو نتائجه بشكل كامل، غالبًا ما يكون أكثر فعالية من التهديد الواضح والمحدد.
• تجنب الالتزامات: في المقابل، فإن وجود تقارير تشير إلى عدم الفعالية الكاملة للضربات، أو إلى التكاليف الباهظة التي قد تترتب عليها، يمنح صانعي القرار الأمريكيين مسوغًا قويًا لعدم اتخاذ خيار عسكري مكلف وغير مضمون النتائج. هذا المسوغ يصبح ذا أهمية قصوى إذا ما اختارت إيران مسار التفاوض الجاد، مما يتيح للولايات المتحدة التراجع عن حافة الهاوية دون أن تبدو ضعيفة أو مترددة.
• الاستعداد لكل السيناريوهات: إن إبقاء الروايتين قائمتين، رواية الفعالية التامة ورواية الفعالية المحدودة، يسمح للولايات المتحدة بالتحول بمرونة بين خياري التصعيد والتهدئة. هذه المرونة ضرورية للغاية في بيئة جيوسياسية متقلبة، حيث تتطور الأوضاع على الأرض وفي المفاوضات بسرعة. فالغموض يمنح واشنطن القدرة على التكيف مع المستجدات، واستغلال الفرص الدبلوماسية أو العسكرية متى سنحت.

2. اختلاف التقديرات الاستخباراتية الحقيقية: تعقيد المشهد
بعيدًا عن الأهداف الاستراتيجية، من الطبيعي أن يكون هناك تباين في التقديرات داخل أروقة الاستخبارات نفسها. فالعالم الاستخباراتي ليس كتلة واحدة متجانسة، بل هو شبكة معقدة من الوكالات والأقسام، لكل منها مصادرها ومنهجياتها. هذا التباين الحقيقي يمكن أن يكون نتيجة لعدة عوامل:

• مصادر معلومات مختلفة: تعتمد كل وكالة أو قسم استخباراتي على مصادر معلومات مختلفة، سواء كانت بشرية أو تقنية أو إلكترونية. وهذا التنوع في المصادر يؤدي حتمًا إلى تفاوت في درجة الدقة والشمولية للمعلومات المتاحة. فما تراه وكالة قد لا تراه أخرى، وما يصل إلى إحداها قد لا يصل إلى الأخرى.
• تفسيرات مختلفة للبيانات: حتى لو كانت البيانات المتاحة هي نفسها، فإن المحللين قد يفسرونها بشكل مختلف. هذا الاختلاف في التفسير ينبع من تباين الخبرات، والتحيزات المعرفية، وحتى الأطر النظرية التي يعتمدونها. فكل محلل ينظر إلى البيانات من زاوية مختلفة، مما يؤدي إلى استنتاجات متباينة.
• تطور القدرات الإيرانية: إن طبيعة البرنامج النووي الإيراني المعقد، والذي يشمل منشآت تحت الأرض ومنتشرة جغرافيًا، يجعل من الصعب للغاية تقييم مدى فعالية الضربات التي وقعت بدقة 100%. فالمعلومات التي وردت من تقرير وكالة استخبارات الدفاع (البنتاغون) المسرب، والتي أشارت إلى أن الضربات لم تدمر المكونات الأساسية للبرنامج، بل أحدثت أضرارًا محدودة في المنشآت فوق الأرض (فوردو، نطنز، أصفهان)، وأن إعادة التشغيل ممكنة خلال أشهر، تتناقض مع تصريحات مدير وكالة المخابرات المركزية (CIA) جون راتكليف، الذي أكد أن الوكالة حصلت على أدلة موثوقة تشير إلى تضرر البرنامج النووي الإيراني بشدة، وأن تدمير منشآت رئيسية سيستغرق سنوات لإعادة بنائها. كما أن تصريحات تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية، التي دعمت فكرة تدمير المنشآت النووية الإيرانية، تزيد من هذا التباين، مما يعكس مدى تعقيد المشهد وصعوبة الحصول على صورة واضحة وموحدة.

3. التسريبات الموجهة: أداة للتأثير
في بعض الأحيان، لا يكون التضارب في التقارير مجرد نتيجة لاختلاف التقديرات أو الغموض المتعمد، بل يكون نتاجًا لتسريبات متعمدة لأغراض معينة. قد تسعى بعض الأطراف داخل الإدارة الأمريكية، أو حتى خارجها (مثل حلفاء أو خصوم)، إلى تسريب معلومات تدعم وجهة نظر معينة لخدمة أجنداتهم الخاصة. وهذا ما رأيناه بوضوح عندما هاجم الرئيس الحالي دونالد ترامب وسائل الإعلام التي تناقلت التقرير المسرب الذي يشكك بفعالية الضربات، ورفض البيت الأبيض تقييم وكالة استخبارات الدفاع ووصفه بـ “الخاطئ”. هذه المواقف تشير إلى أن هناك صراعًا داخليًا حول الرواية الرسمية، وأن التسريبات قد تكون جزءًا من هذا الصراع، تهدف إلى توجيه الرأي العام أو التأثير على القرارات السياسية.

رأينا: بين الضبابية والواقع المعقد

بناءً على ما تقدم، أميل إلى أن التباين في التقارير حول فعالية الضربات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية هو مزيج معقد من الضبابية الاستراتيجية المتعمدة والاختلافات الحقيقية في التقديرات الاستخباراتية. فليس من المستبعد أبدًا أن تكون الإدارة الأمريكية، حريصة على إبقاء إيران في حالة دائمة من عدم اليقين بشأن التقييم الأمريكي الحقيقي لمدى فعالية الضربات، والنوايا الأمريكية المستقبلية، والخطوات التالية المحتملة. هذا التكتيك ليس مجرد مناورة تكتيكية، بل هو استراتيجية عميقة تعزز القوة التفاوضية للولايات المتحدة، وتجعل طهران تعيد حساباتها باستمرار، وتفكر مليًا في كل خطوة تخطوها.

ببساطة، تريد الولايات المتحدة أن تكون إيران غير متأكدة تمامًا من أن التقييم الأمريكي للضربات العسكرية التي وقعت هو أنها كانت إما مدمرة بالكامل، تقضي على برنامجها النووي بشكل لا رجعة فيه، أو غير فعالة على الإطلاق، مما يجعلها بلا جدوى. هذا الغموض، الذي يلف المشهد، يحقق هدفين رئيسيين في آن واحد:

• الردع: إن الإيحاء بقدرة أمريكية على إلحاق ضرر كبير بالبرنامج النووي الإيراني إذا لزم الأمر، يعمل كعامل ردع قوي. هذا الردع لا يعتمد على التهديد المباشر بالضربة، بل على الغموض المحيط بنتائجها المحتملة من منظور أمريكي. فإيران، وهي تواجه هذا الغموض، تظل في حالة من الترقب والحذر، مما يحد من طموحاتها النووية.
• المرونة الدبلوماسية: يوفر هذا الغموض مساحة واسعة للمناورة الدبلوماسية. فعندما لا تكون الخيارات العسكرية واضحة المعالم، يمكن للولايات المتحدة أن تتجنب الاضطرار إلى اتخاذ قرارات عسكرية صعبة ومكلفة، خاصة إذا كان هناك مسار تفاوضي قابل للحياة. هذا يمنح الدبلوماسية فرصة أكبر للنجاح، ويقلل من احتمالات التصعيد غير المرغوب فيه.

في الختام، يبدو أن ما نراه في تباين التقارير الأمريكية حول المنشآت النووية الإيرانية هو جزء لا يتجزأ من لعبة شطرنج معقدة على الساحة الدولية. في هذه اللعبة، لا تُستخدم المعلومات والتقارير فقط لنقل الحقائق المجردة، بل تُستخدم أيضًا كأداة قوية للضغط والتأثير على سلوك الأطراف الأخرى. إنها استراتيجية ذكية، تهدف إلى تحقيق الأهداف السياسية دون الحاجة بالضرورة إلى اللجوء إلى القوة العسكرية المباشرة، مع الإبقاء على هذا الخيار قائمًا ومبهمًا في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى