رئيس التحرير

بناء الأمم

بهجت العبيدي

 

إن الحياة في تغير وصيرورة، وهذا ما يعني أن كل الحضارات في حالة ديناميكية، تلك الحالة التي إما أن تكون في اتجاه التقدم والرقي، أو في اتجاه الاضمحلال والأفول، وهذا الاتجاه أو ذاك يتوقف على أبناء أمة هذه الحضارة أو تلك، فمن يأخذ بأسباب العلم والتقدم فهو يصنع لأمته مجدا، ويضمن لحضارته الصمود والبقاء والتقدم، ومن يستكين ويهفو للدعة، فلقد حرم أمته وحضارته تلك الأسباب، ودق أول مسمار في نعشها.

كثير من الأفكار الخاطئة تعشعش في نفوسنا – نحن المصريين والعرب – عن أوربا وأهلها، ولذلك أسباب متعددة، يمكن الوقوف عندها في موضع آخر.

منذ ما يقرب من ربع قرن، حينما قررت التوجه إلى أوربا، كانت هناك تصورات مسبقة، تم إسكانها الذهن، فلقد صُوِّرَت الحضارة الغربية وقد حازت الكمال، والإنسان الغربي في حالة رفاهية طوال الوقت، وأن عبور البحر، ومازال ذلك قائما في خيال البعض، كفيل بأن يهنئَ فاعله بتلك الرفاهية، تاركا خلفه التعبَ والنَّصَبَ لهؤلاء الذين لم تكتب لهم النجاة من شقاء تلك الحياة على الشاطئ الجنوبي من البحر، ومن ضمن الظن – وكل هذا الظن إثم – أن هؤلاء الساكنين القارة العجوز ليس لديهم من همٍّ سوى التمتع بملذات الحياة، وفي القلب منها، العلاقات الجنسية غير المشروعة، وشرب الخمر، في صورة عُمِدَ لها أن تَنفِي عن الإنسان الأوربي كل السمو والرقي الخلقي والروحي، والذي لا يتفق والحضارات الراقية.

لعل أكثر من صَوَّرَ الحياة الأوربية على حقيقتها هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، حينما تحدث عن تلك الروح المغامرة، التي تضحي من أجل النهوض ببلادها، وإسعاد البشرية، كما كشف عن حياة تتفاعل فيها كل العناصر، تسعى سعيا لتحقيق الإنجازات بالبحث والدرس والتجريب، من خلال عقل لا يركن لمسلمات مهما صُبِغَ عليها من التقديس، ونفوس لا تهدأ تتطلع دائما للأفضل، وسواعد حيّةٍ فتيةٍ تؤدي عملَها بمهارةٍ وإتقان.

شاءت الأقدار في رحلتي بالنمسا أن أتعرف على مستوياتٍ شتى، بدءًا من عمال النظافة، مرورا بالعقول المُخَطِّطَة، وصولًا لمؤسسات صناعية يُشار لها بالبنان، ولم تخلُ كذلك من التعرف على أصحاب فكر ورأي وثقافة وفن وإعلام.

في كافة المجالات كان هناك عملٌ دائم وعرقٌ يُبذَل، وسواعدُ فَتِيَّةٍ، مَثَّل الأغلبية العظمى في كل ذلك أبناء البلد، فبالرغم أن هناك جنسيات عديدة اتخذت من النمسا موطنا لها، وتساهم هذه الأعراق المختلفة بسهمٍ مُعتَبَرٍ في تلك الحضارة التي تشهدها الدولةُ الصغيرةُ الجميلةُ المُنَظَّمَةُ، والتي يتجاوز عدد سكانها الثمانية ملايين نسمة بقليل، يمثل الوافدين منهم ما يقترب من الثمن، حيث أن 1.27 مليون من السكان مولودين خارج النمسا، وهذا يؤكد أن العنصر الرئيسي في منظومة العمل المتطورة والتي تشمل جميع مناحي الحياة هو لأبناء البلد المولودين داخل النمسا، فتجدهم متقنين لأعمالهم: الحرفية والتقنية والعلمية إتقانا ضمنته لهم المنظومةُ المتكاملةُ من تعليم وقوانين عمل وإعدادٍ وتأهيلٍ وعائدٍ، وسوق عمل ترحب بالماهر، وتلفظ المتكاسل و” الفهلوي!”، كما تشجع المتقن المخلص النشط المقبل على عمله والذي يعتبره هو بيته الحقيقي، كما يعتبر زملاءه جزءً من أسرته، فلا ينتابك العجب – عزيزي القارئ إذا ما قُدِّرَ لك أن تلتقي أحدَهم – حينما تسمع أحد العمال أو العالمين ينسب الشركة أو المؤسسة التي يعمل بها لنفسه فيقول – وهو صادق – ” شركتي أو مؤسستي “؛ لأنه بالفعل يشعر بذلك ويسكن ضميره، ومن ثمَّ يعتز بتلك الشركة أو هذه المؤسسة، ليس بالقول فحسب، بل بالعمل والتفاني فيه، والإتقان الذي يضمن لهذه الشركة وتلك المؤسسة البقاء، كما يؤهلها تأهيلا مناسبا للمنافسة الشرسة في سوق العمل الذي لا يرحم.

قليلا ما أسمع أغان وطنية في النمسا، وإن لم يُعدَم وجودها، على عكس بلادنا التي يتسابق فيها الفنانون بإصدار مثل هذه الأغاني، وإن كنت أتفهم ذلك؛ حيث أن أزمان الأزمات، تلك التي يفتر فيها – للأسف – الحس الوطني، في حاجة لمثل تلك الموسيقى، وهذه الكلمات التي تُحَرِّك في النفس شعور الانتماء، أو بالأحرى تحرك تلك المنطقة المموسقة – إن جاز التعبير – في داخلنا، والتي ينشد منها إثارة حمية الانتماء للأوطان، بهدف استثماره للنهوض بالأوطان والذي لن يتأتى إلا من خلال رُؤَى مستقبلية وخطط عمل، وإعداد، وقبل كل ذلك شعور بالمساواة، والعدل وإحساس يسري في نفوس أبناء الوطن أنه ملك لهم جميعا، ذلك الذي يفتقده الإنسان في مصر وعالمنا العربي، نتيجة لعدة قرون من سياسة المحسوبيات، هذا الشعور بملكية مشتركة في الوطن هو نفسه من أهم عوامل بناء الأمم ونهضتها، فهو الذي يدفع للتنافس في حب الوطن وبنائه، والذي يتم على أكتاف أبنائه فقط، فمهما كان لدى بعض الدول من عمالة، نتيجة لثروة طبيعية، كما الشأن في بعض بلادنا العربية النفطية، فإنها من دون مشاركة أبناء تلك الدول في العمل الفعلي – وليس مجرد الحياة الريعوية – في كل مجالات الحياة والإبداع فإنه لا أمل في نهضة حقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى