الإصلاح التربوي لا يُكتب بقلم وزير فقط
البكالوريا المصرية: حلمٌ يولد في غير أوانه؟

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
حين يتحدث معلم مصري مثلي، هاجر إلى النمسا منذ ثلاثين عامًا، يحمل بين ضلوعه حنين الوطن وعينًا ترى الأشياء من علٍ، يكون للحديث طعمٌ مختلف، ونبرةٌ مشبعة بالصدق لا تعرف المداراة. هكذا بدأت أفكاري تتراءى أمامي، سؤالًا وجوابًا، حول همّ يؤرق كل غيور على مستقبل أجيالنا في مصر.
كان الموضوع الذي يشغل بالي مثقلًا بالتطلعات: نظام تعليمي جديد أُطلق عليه “البكالوريا المصرية”، يسعى ليكون بديلًا مرنًا للثانوية العامة التي أرهقت الأجيال وأثقلت كاهل الأسر. يحدوني الأمل، شأن كل مصري، أن يُحرر هذا المقترح الطالب من سطوة “الامتحان الواحد” ويمنحه فرصة لتحسين الأداء، ويعيد الاعتبار للمهارات والبحث والتقييم التراكمي، كما تفعل الدول التي أسكنها وترتقي في قمة تصنيفات التعليم عالميًا.
ولكن، سرعان ما انكشفت لي حقيقة لا يمكن تجاهلها. فبين الأحلام الوردية والخطط المرسومة على الورق، يسكن واقع لا يرحم. مدارس تئن تحت ضغط كثافة الطلاب، فصول يتقاسم فيها التلميذ المقعد والمناخ، ومعلمٌ مثقلٌ بأعباء لا تُطاق، يُطالَب أن يكون مرشدًا، مربيًا، باحثًا، ومقيّمًا محايدًا، دون أن يُمنَح أدوات التمكين اللازمة أو تدريبًا يعادل حجم المهمة الملقاة على عاتقه.
وهنا، تساءلت في حديث النفس، لا لأجادل بل لأُضيء السؤال من زاوية التجربة والمنطق: هل يُعقل أن تُناط مهمة التقييم الموضوعي والنزيه لطلابنا بمعلمين لم يُؤهَّلوا بما يكفي للتعامل مع هذا التحول الجذري؟ وهل أستطيع أن أطلب حيادًا ممن يعيشون ضغوطًا اجتماعية ونفسية ومادية لا تُحصى؟ الإجابة التي جاءتني من عمق تجربتي في أوروبا ومن منطق الأرض كانت قاسية لكنها واقعية صادمة: لا، لا يمكن تطبيق نظام كتقييم البكالوريا المصري بنفس معايير الدول الأوروبية المتقدمة دون تغيير جذري في بنية التعليم ومعاييره، وتأهيل عميق للمعلم.
مقارنةٌ من قلب التجربة
من تلك الحقيقة المؤلمة انطلقت مقارنات لا مفر منها بين ما رأيته وعشته. هنا في النمسا، حيث أعمل وأعيش، يعتمد النظام التعليمي على تقييم تراكمي يثق بالمعلم، ويمنح الطالب فرصًا متعددة للتعبير عن فهمه ومهاراته، مع التركيز على التعليم العملي والتطبيقي. في فنلندا، لا توجد امتحانات وطنية موحدة تقريبًا، والثقة في المعلم ركنٌ أساسي لا يتزعزع، حيث يُمنح المعلم استقلالية كبيرة في تصميم المناهج وطرق التدريس. وفي فرنسا، نجد البكالوريا مسارات متعددة وتقييمًا شاملًا يراعي جوانب الفهم والبحث والمهارة، ويُعتد فيه بقدرة الطالب على التفكير النقدي والإبداعي.
أما في مصر، فأرضنا بحاجة إلى حرث عميق وإعداد دقيق قبل أن تُزرع زراعة متسرعة قد لا تثمر. العيب ليس في المعلم المصري الذي أثبت كفاءته في شتى بقاع الأرض حين أُتيحت له الظروف المناسبة، بل في المناخ التعليمي العام، في غياب التدريب المستمر الكافي، وفي ثقافة تعليمية تتعامل مع الدرجات النهائية لا مع القيمة الحقيقية للتعلم.
رؤيةٌ نحو المستقبل
أنا لا أنفي الطموح المشروع الذي يحمله هذا المقترح، ولكني أحذر من التسرع الذي قد ينسف هذا الطموح من أساسه. فالإصلاح التربوي لا يُكتب بقلم وزير فقط، بل يحتاج إلى منظومة تمكينٍ كاملة: تبدأ من تأهيل المعلم وتزويده بالتدريب الكافي والأدوات اللازمة، مرورًا بتطوير البنية التحتية للمدارس وتخفيف كثافة الفصول، ووصولًا إلى تغيير نظرة المجتمع للتعليم ذاته. يجب أن ينتهي التعليم من كونه سباقًا للمجموع يتحدد فيه مصير الطلاب من امتحان واحد، إلى كونه فضاءً رحبًا لتشكيل الشخصية والعقل، وغرس بذور الإبداع والتفكير النقدي.
قلت في نفسي بصدق لم يعرف المجاملة: “ما يحدث الآن يبدو قفزة في الخلاء.” هي كلمات صافية كالماء، لا تهدف إلى السلبية أو التيئيس، لكنها ترفض الزيف وتدعو إلى الواقعية. فالبكالوريا المصرية ليست مشروعًا يُرفض لمجرد الرفض، بل هو تحوّل طموح يجب أن يُنفذ برؤية واضحة لا بحماسة مفرطة، بخطة استراتيجية لا بشعار براق، بإشراك المعلم وتمكينه لا بإغراقه بمهام تفوق قدرته، وبثقة في قدرات أبنائنا شريطة ألا نتجاهل الواقع الأليم.
ذلك هو جوهر الحكاية، وصوت من عاش الواقع عن كثب وراقبه من بعيد، لا ليبتعد عن وطنه وهمومه، بل ليحكي ما رآه بضمير حي، عسى أن تصل الحكاية إلى من يقرر… ويُحسن الإصغاء.