مختارات

الأشباح …. للكاتب النرويجي هنريك أبسن

تعريف: هذه مسرحية: قال عنها النقاد: (إنها عمل أدبي خلق قبل أوانه) فقد أثار ظهورها سنة 1881م، ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية في كثير من أنحاء العالم، وأبت المسارح تمثيلها في ذلك الوقت، لأن الناس كانوا لا يدركون ما يرمي إليه المؤلف من آراء جريئة. وقد ظلت مسرحيتنا هذه حبيسة الملفات، سجينة العادات حتى إذا كانت النهضة القومية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين جرؤ بعض أصحاب المسارح فنفض ما تراكم عليها من تراب السنين، فمثلت ونجحت نجاحا تعدى المسرح النرويجي إلى كثير من المسارح العالمية، فترجمت إلى كثير من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، ولم يلبث المؤلفون المسرحيون أن حذوا حذوها في مسرحياتهم بل واتخذها كثير من العلماء الباحثين موضوعاً لأبحاثهم في الوراثات التي يورثها الآباء أبناءهم. وهذه الوارثات منها الطيب والخبيث. والفكرة الرئيسية في هذه المسرحية أن (الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون). فالأب في هذه المسرحية خدن للشيطان، حليف للشر عبد للشهوة أصيب بالجنون ومات إثر نوبة قلبية متأثراً بما كان يتعاطاه، وقد ورث عنه ابنه الاستعداد للإصابة بهذا المرض رغم أنه لم يكن يعرف أن له أباً شريداً مصاباً بالجنون…

ولقد عني المؤلف بالفكرة اكثر مما عني بالأشخاص، فجاءت المسرحية قوية الموضوع، ضعيفة من ناحية الأبطال، الذين جعلهم كأنهم قطع شطرنج يتحركون بغير روح.

المسرحية: – مستر إنجستراند رجل محب للمال يعمل للحصول عليه من أقصر طريق، ويريد الوصول إليه بغير كد ولا عناء، ولا يهمه أن يكون الطريق شريفاً أو وضيعاً، فهو لا يحفل بالشرف، ولا تستهويه الألفاظ الرنانة التي يتشدق بها الآخرون عن الشرف والفضيلة. . . إلخ فإذا رفع الستار نراه يتحادث مع ابنته (ريجينا) يحاورها ويراوغها، ونسمعه يفاوضها في بيع شرفها بالمال لحسابه الخاص، ويطلب منها أن تقدم جسدها طعمة سائغة لمن يدفع أغلى ثمن، فإن رأى منها الأعراض والتأبي، ذكرها بما يجب عليها من طاعته واكتساب رضاه. . . ولكن الابنة ترفض طلب أبيها في أباء وشمم، وتأبى أن تستسلم لإغرائه، فإذا حاول أن يثنيها عن عزمها ثارت في وجهه ونهرته ثم تطرده من المنزل الذي يقيم فيه، فهي تقيم في منزل ربيبتها مسز (الفنج) وهي امرأة واسعة الثراء اشتهرت بالغنى واليسار.

إن (ريجينا) لا تملك قلبها الذي يريد منها أبوها أن تبيعه لدافع الثمن الأكبر، فقد وهبته من زمن لــ(أسوالد) ابن مسز (الفنج) صاحبة البيت الذي تربت فيه، فقد التقت به كثيراً كلما عاد إلى بيت والدته من غربته، فأحبته (ريجينا) ووهبته قلبها.

و (أسوالد) هذا وحيد أمه، ولكنها قد أبعدته منذ صغره عن البيت الذي تعيش فيه مع أبيه، فأثار هذا زوبعة من اللفظ والحديث بين أهل القرية، وخاض أهلها في كثير من التفسيرات المختلفة عن عدم حبها لابنها الوحيد، وقسوة قلبها وجمود عاطفتها.

وأنه لولا ذلك لما أرسلت ابنها الوحيد إلى إيطاليا ليعيش هناك بعيداً عنها وعن أبيه.

والحق إن كل هذه التفسيرات لم يكن شيء منها صحيحاً، فلم تكن مسز (الفنج) قاسية القلب غريبة الأطوار، بل أنها كانت على عكس ذلك رقيقة القلب جياشة العواطف، حسنة التصرف، ولم يكن إبعادها لابنها ليتعلم فن الرسم كما كانت تقول هي لمن يسألها، ولا كرها له ولا قسوة عليه كما يقول الناس، وإنما الذي أوحى إليها هذا العمل، هو حبها لابنها وعطفها عليه، فقد أشفقت عليه أن يعيش مع أب شريد عربيد كالمستر (الفنج) الذي لا يفيق من سكره، وإن أفاق فإنما ليبحث عن امرأة ساقطة يقضي الليل بين أحضانها، لقد أشفقت على ابنها ولم تشأ أن ينكب في أبيه كما نكبت هي، فعملت على إبعاده عن الجو المشبع برائحة الخمر والدعارة.

وكم قاست من شرور زوجها وآثامه وهي صابرة محتملة، فلم ترد أن يتحمل ابنها شيئاً مما لاقته فعملت على إبعاده، ونجحت في إنقاذه من شرور أبيه وتربيته بعيداً عنه؛ ولكنها لم تستطع أن تنقذه من الرذائل والعادات السيئة التي ورثها عن أبيه، فقد انتقلت الشرور والآثام من الأب إلى الابن في الدم كأنها أشباح سوداء في ليلة مظلمة. وكان من أثر هذه الوراثة أن نشأ (أسوالد) معتل الجسم في عقله استعداد للاعتلال عند الصدمة الأولى. ولقد نصحه طبيبه الإيطالي بأن يريح عقله وجسمه فلا يرهقهما بمجهود عنيف، وأنذره إن لم يتبع نصحه فسيلقي حتفه عن هذا الطريق. فلما مات الأب الشريد أرسلت مسز (الفنج) إلى إيطاليا تستدعي ابنها ليعيش في كنفها، فلما حضر منحته عطفها وحنانها اللذين حرمته منهما قسوة الأيام وفساد أخلاق الأب.

والتقى (أسوالد) و (ريجينا) فخفق قلباهما اللذين أصابهما كيوبيد بسهمه، وقد مهد لهذا الحب تلاقيهما في المرات السابقة التي كان يحضر فيها الشاب لزيارة أمه، على رقم قصرها، فلما عاد هذه المرة التي سيبقى فيها طويلا، أطلقا لنفسيهما العنان، وأصبح كل منهما لا يستطع فراق الآخر، وكانت الشواهد تدل على أنهما في طريقهما الطبيعي نحو الاكتمال والسعادة المحققة التي ينشدها كل حبيبين.

فلما رأى مستر (انجستراند) والد (ريجينا) هذه البوادر عز عليه أن يفقد ابنته التي يريد أن يستخدمها في مآربه الدنيئة فعاد يحوم حولها، ينذرها حيناً ويرغبها حيناً آخر. فلما أبت أن تكون فريسة شهية لرواد منزله، لجأ إلى القس (ماندرز) يشكو له ابنته العاقة التي تأبى أن تعيش معه. وتؤثر أن تعيش مع سيدة قاسية غليظة القلب كالمسز (الفنج) التي سبقت أن أبعدت ابنها ليعيش بعيداً عنها محروماً من عطف أبيه وحنانه. إنه لا يأمن على ابنته في هذا المنزل وخصوصاً بعد عودة (أسوالد) الشاب. وصدق القس كلامه وخدع بمعسول قوله لأنه كان ينظر إلى المسز (الفنج) نظرته إلى امرأة فظة قاسية. ولأنه لم يكن يعلم لماذا أبعدت ابنها عن أبيه. فذهب إليها يأمرها أن ترد البنت إلى كنف أبيها الحنون.

وهنا تضطر مسز (الفنج) أن تعترف للقس بالسبب الذي من أجله أبعدت ابنها وما كان من أمر الأب الشرير الساقط، وتفهمه أن زوجها قد خانها مع خادمة لها، فتقول له:

-إن ريجينا ليست ابنه مستر (انجستراند). فيسألها القس متعجباً وكيف ذلك؟ فتقول له:

– لقد فاجأت زوجي والخادمة بين أحضانه وهما في وضع مشين والخادمة تقول له: أوه. . . أوه. . . مستر الفنج. . . اتركني. . أرجوك أن تتركني. فاضطررت إلى طرد الخادمة الفاسدة الخلق بعد أن منحتها مالا تعيش منه.

وقد تزوج مستر (انجستراند) من تلك الخادمة الساقطة من أجل مالها التي أعطيته لها، وبعد أشهر خمسة من زواجهما أنجبت له (ريجينا).

فدمدم القس قائلاً: (إنها خادمة فاسدة حقاً)

ولكن مسز (الفنج) لا تلقي بالتبعة كلها على كاهل المرأة الساقطة دون أن تحمل شريكها الذي بذر معها بذور الخطيئة ثم تخلى عنها وقت العقاب، بعض الذنب، فتجيب القس قائلة:

(يخيل إليّ يا سيدي أحيانا أننا نعيش في عالم كله رياء، وأننا جميعاً ساقطون وأن أخطاء الأموات حية في دمائنا، قد أورثوها إيانا، وإني أصارحك أني أرى هذا العالم يحوي من الخطايا والشرور أكثر مما يحوي من حصى الأرض ورمل الصحراء، وأننا جميعاً نهرب من الضوء ونخشى الظهور في النور لنعيش في الظلام الذي يحجب خطايانا عن عيون الغير.)

فقال لها القس وقد ظهر الغضب على وجهه حتى ارتعشت لحيته: (كيف تقولين إننا جميعاً ساقطون وإننا نهرب من الضوء؟)

فقالت له: (ألم تزوجني زواجاً فاسداً باطلاً)؟ فقال لها:

(كيف ذلك؟ إن زواجك قد تم وفق القانون والواجب، وهما عمودان شامخان يباركان حياة الزوجية الماضية). فقالت له:

(إذا كان القانون والواجب، يرغمان الإنسان على أن يوقف حياته الصالحة على احتمال آثام رجل شرير فاسد لا يرجى منه خير ولا يؤمل فيه صلاح. . فإنهما عمودان شامخان يرمزان إلى مفاسد العالم وآثامه)

ولم تكد مسز الفنج تتم حديثها حتى يدخل مستر (انجستراند) ليسأل القس عما تم ويستشهد به في طلب ابنته، ولكن القس يثور عليه في وجهه إذ كيف يتزوج امرأة ساقطة نظير مالها.

فيجيبه مستر (انجستراند) بهدوء تام قائلاً: (أليست الشرائع السماوية تأمرنا، أن نمد العون لمن تزل قدمه؟ (فيؤمن القس على قوله) فيواصل (انجستراند) قائلاً: فأنا قد سمعت أمر السماء وانتشلت والدة (ريجينا) من الوحل الذي ألقاه فيه مستز (الفنج)

كان ذلك عندما اقتحمت يوما أحد المراقص الأرستقراطية هناك في المدينة حيث تراق الخمر كالماء، وتبعثر الأموال ذات اليمين وذات الشمال بغير حساب، والفقراء هنا في القرية يقتلهم الجوع ويفري أجسامهم البرد، وهناك النساء مرتميات كأنهن الوسائد، وقد اقتحمت ذلك المرقص محاولا زجر أولئك القوم عن آثامهم التي يرتكبوها، ولكنهم لم يسمعوا إليّ بل ألقوا بي إلى الخارج فكسرت إحدى ساقي، وفي محنتي تقدمت إلى والدة (ريجينيا) وساعدتني على الوصول إلى داري، ثم اعترفت لي أن رجلاً سلبها عفافها، فقلت لها لقد ارتكبت جرما وأصبحت امرأة ساقطة تحملين الآثم والفجور، ولكن ها أنا ذا أقف بجانبك لأنقذك مما أنت فيه حتى لا تضيفي إلى أبيك آثاماً، أخرى، وقد أنقذت المسكينة حتى لا تكون خطيئتها مضغة الأفواه.

وخدع القس بهذا الكلام الزائف، فلبث برهة صامتا لا يتكلم وهو ينظر إلى مسز (الفنج) كأنه يؤنبها على ما قالت في حق (انجستراند) وفي أثناء ذلك خرج (انجستراند) من الدار ليعود إلى المنزل الذي يديره.

وهم القس بالكلام مع مسز (الفنج) ولكنها سمعا صوت (ريجينا) من الداخل تصيح:

أوه. . . أوه. . . مستر إسوالد. . . اتركني، أرجوك أن تتركني…

ويعقب هذا أصوات اصطدام أشياء، فيلتفت القس إلى مسز (الفنج) ويسألها عن مصدر هذا، فتجيبه وقد أدركت كل شي (إنها أشباح مثقلة بالآثام والشرور ورثها الابن عن أبيه). .

ثم يخرج القس وتستدعى مسز (الفنج) إليها (أسوالد) وتسأله عما حدث بينه وبين (ريجينا) فيقسم لها إنه لم يحاول الإساءة إليها ولكنه يحبها، ويثق أنها تحبه حباً صادقا، فيقول لها: إن حبها هو الذي صانني عن كل عبث وحال بيني وبين ما كنت أهم بارتكابه في غربتي. ولقد همت كثيراً أن افعل ما يفعله الشباب، ولكن كان مجرد تفكيري في أن هذه الفتاة البريئة الطاهرة الذيل تنتظر أوبتي وأنها تمد لي ذراعها لأتلقاها. كان هذا وحده يبعدني عن مزالق الشر ويدفعني إلى الثقة بنفسي فأبتعد عن كل ما يشين.

وهنا يظهر الارتباك على مسز الفنج وتستغرق في سهوم طويل، لا يخرجها إلا صوت ابنها (أسوالد) يسألها أن تبارك حبها، فتلتفت إليه وهي لا تزال شاردة، وتقول له في صوت شارد حزين:

– إنها أختك يا بني. فيرد عليها في صوت مزعج: هذا محال، كيف ذلك بربك؟ أصدقيني أهي أختي حقاً؟ هذا محال. . .

فتهدئ والدته من روعه، ثم تخبره بقصة (جوانا) الخادمة التي اعتدى أبوه عليها فأنجبت (ريجينا) ولكن بعد زواجها من انجستراند بمدة قصيرة جداً. . . وهنا تنزل بالشاب المسكين الصدمة التي حذره الطبيب إياها.

وعندما تعرف (ريجينا) أن (أسوالد) أخوها وأن زواجها منه مستحيل تضيق بها الحياة وتصمم على الرحيل. . .

فتسألها مسز (الفنج) (إلى أين ياريجينا؟) فتقول لها:

-إلى حيث أراد أبي أن! أهب جسمي لدافع الثمن الأكبر. فتقول لها:

-ولكنك يا ريجينا تلقين بنفسك في الهاوية.

-ليكن هذا مادام مسز أسوالد سر أبيه، فلأكن أنا الأخرى سر أمي. ثم تخرج هائمة على وجهها.

وتظهر دلائل الاختلال على أسوالد، فيستولي الرعب على الأم وتلقي بنفسها تحت قدميه وتصيح:

-أسوالد ابني، ارحم أمك التي منحتك الحياة والحب والحنان.

ولكنها لا تسمع إلا صوت سقوط أسوالد على الأرض ميتاً، فقد انفجر شريان في فمه فخر صريعاً.

.تلخيص للمسرحية بقلم الأستاذ: عبد الموجود عبد الحافظ

نشر في العدد 935 من مجلة الرسالة

بتاريخ: 04 – 06 – 1951

ج.م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى