فلسفة الموت، لماذا لا نرغب في الرحيل؟
بقلم: الإعلامية إيمان وجيه يعقوب
لأسابيع طويلة، لا أُحصيها عدداً، كنتُ أسهرُ وحدي، أقتنص فرصة سكون الليل وصفاء الذهن، بينما الجميع نيام، لأُنجز ما لدي من عمل غير مُكتمل. ولأنّ عملي يقتضي بطبيعة الحال التعرّض الدائم للأخبار والبحث في الخلفيات التاريخية للأحداث، أظل أقرأ على الدوام عن شخصياتٍ مختلفة من عوالم متنوّعة، عوالم سياسية وثقافية وأدبية وعسكرية وفنية، كل العوالم. على اختلاف ما قرأت، أجدني أُستوقَفُ كل مرةٍ عند نفس المشهد، مشهد الموت، لا أُعنى بالكيفية بقدر ما أُعنى بالفكرة ذاتها، فكرة الذهاب دون عـودة. فكرةٌ مَهيبة قد يعجز العقلُ في كثير من الأحيان عن استيعابها. أرحلَ كُلُّ هؤلاء؟ بهذه البساطة؟
يقول الفيلسوف نيكولا بيرديائيف: ” إن الموت هو الحقيقة الأعمق والأكثر دلالة في الحياة نفسها، لأنه يأخذ بالإنسان فوق ظواهر حياته اليومية السطحية، إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا نفكر في معنى الحياة ذاتها، والحياة نفسها لا معنى لها إلا في دلالة الموت عينه ” (1).
إذاً فالموت هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي يُجمع عليها البشر على كل ما بينهم من اختلاف. برغم كونها حقيقةٌ لا تحتمل طعناً في صحتها، إلّا أنّنا نحاولُ تجاهلها جهد ما استطعنا، لكنّها تنال منّا كلما عرفنا بموت أحدهم، بشكلٍ أو بآخر، كأنّها تطلُّ برأسها لتؤكدَ على وجودها، وتُذكّرُ أنّها بالأرجاء، وأنّها ستتعقبُنا، كُلُّ بميعاد.
أنرحلُ ويُرحَلُ عنّا بهذه السهولة يا الله؟ نكونُ شيئاً يوماً ثم نُصبحُ عدماً في غَدَاتِه؟ الفكرة في أقل وصفٍ لها، مُرعبة.
فلماذا إذاً على اختلافاتنا العرقية والثقافية، نتمسّكُ بالحياة ولا نرغب في الرحيل؟ أحُبّ في البقاءِ أم خوفٌ من مصيرٍ مجهول؟
* هل يُغيّر الموتُ طريقتنا في التفكير؟
تمت الإجابة على هذا السؤال في إطار تجاربٍ تمت على مدى 30 عاما، حيث قام علماء الاجتماع النفسي بفحص الآثار الناتجة عن تخيّل الإنسان لموته من خلال إجرائهم ما يزيد عن الـ 200 تجربة، خلصوا إلى أنّ الطريقة التي نُفكر بها تختلف في الوقت التي نتذكر فيه الموت. (2)
وفقاً لنتائج الدراسات، فالموت يجعلُنا أكثر إنسانية وتعاطفاً مع الآخرين. اتّضح ذلك في إطار إحدى التجارب التي أُجريت على قضاة البلديات في الولايات المتحدة الأمريكية، حيثُ تم تقسيمهم إلى مجموعتين وطُلب من كليهما، تحديد المبلغ الذي يجب أن يُعطى لإحدى العاملات بمجالٍ ما، في سيناريو افتراضي بالطبع. كانت النتيجة أنّ القُضاة الذين قد تحدثوا معهم عن الموت قبل طرح السؤال قاموا بتحديد ما يقاربُ 10 أضعاف المبلغ الذي حددته المجموعة التي لم يتم تذكيرها بالموت. (3) إذا فالموت قادرٌ على أن يُغيّر تفكيرنا بشكل جذري، نحو الأفضل! كما أنّه ممّا توصّلت إليه الدراسة من نتائجَ أيضاً أنّ التذكير بالموت يجعلنا أكثر تسامحاً وتديّناً ومحافظةً. رُبَما إذاً كل ما نحتاجه لكي نعيش الحياة بشكل أفضل ولكي نكون أناساً صالحين أن نعلمَ أنّ المآلَ في نهاية المطاف واحدٌ، وأن نتذكر الموت طوال الرحلة، نضعه نصب أعيننا، فلا نحيد عن طريق الاستقامة.
* لماذا نخاف الموت؟
يقول الكاتب الأمريكي لا فكرافت ” إن أقدم وأقوى الانفعالات البشرية هو الخوف، وإنّ أقدم وأقوى أنواع الخوف هو الخوف من المجهول “
إنّه الخوف من المجهول، فما مصيرنا بعد الموت؟ إلى أين المآل؟ جنّةٌ أم نار؟ ماذا عن الحساب؟ كلّها تساؤلات لا إجابة لها، فلا يُمكن للمرء أن يجزم بمصيره بعد الممات. وبسبب هذا الخوف؛ نتمسك بهذه الدنيا بكل ما نلقى فيها شقاء وكبد ومرض، وذل وهوان وفقر! نؤثرُ أن يمتد بنا العمر إلى حد تفضيلنا ما نعايشه من صراعات ومآسٍ معلومة على مصيرٍ لا ندري عنه شيئاً!
ورُبَما هذا الخوف من الموت ليس خوفاً من مجهولٍ بقدر كونه خوفٌ من فقدان معلوم، فقدان ما نملك ونحوز، فقدان ما نحن عليه الآن وما لدينا من عائلة، وأصحاب، وأولاد، وأموال! فكما يقول الكاتب الهندي (أنتوني دي ميلو): ” لا أحد يخاف من المجهول، ما تخافه حقًا هو فقدان المعلوم “
نخاف أن نرحلَ من الدّنيا دونَ أن نُدرك أحلاماً تمنتها قلوبنا عُـمُـراً، نودّ لو أنّ لدينا ما يكفي من الوقت لنمضيه مع أهلينا وأحبتنا، نخشى أن نرحل وفي النفس يقينٌ بأنّه مازال لدينا المزيد من العطاء، وأنّ بوسعنا الكثير لنقدمَه لهذا العالم، أنّه لم يحن الوقت بعد.
رُبما تعلقنا بالدنيا إلى الحد الذي نسينا فيه أنّ وراءَ هذه الدنيا حياة أخرى، حياة لم نُقدّم لها شيئاً. سَأَلَ الخليفة الأموي (سُليمان بن عبد الملك) عالم أهل المدينة (سلمة بن دينار المخزومي) قائلاً: ” يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ ” فرَدّ عليه (أبو حازم) قائلاً: ” عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب ” (4)
هناك تفسيرٌ فلسفي لرغبتنا في عدم الرّحيل ورؤيتنا للموت على أنّه مُشكلةٌ تستوجب حلّاً فعليّاً. وهو تفسيرٌ يُقدّمه الفيلسوف المصري العبقري د. عبد الرحمن بدوي في كتابه (الموت والعبقرية)، يرى فيه أن السبب الرئيسي وراء هذا الشعور هو كون البشر على درجةٍ عاليةٍ من الإحساس بالفردية، مُدلّلاً على ذلك بأن الموت لم يكن مشكلةً لدى الإنسان البدائي والساذج حيثُ إنّه كان يمتلكُ شعوراً ضعيفاً بالشخصية فيقول في ذلك: ” نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائمًا ميلاد حضارة جديدة، فإن ما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات ” (5).
* خُلاصة القَول
خُلاصةُ القول: طال العمر أم قَصُر، أبينا المغادرة أم لم نأبَ، كلنا راحلون. فإن كنّا غير قادرين على أن نُغيّرَ في الأمر شيئاً، وإن كان القدَرُ نافذاً لا محالة، وإن كان مآلُنا جميعاً إلى ذات المصير، فالأفضل لنا أن نعيشَ أعمارَنا بهدوء عارفٍ وحكمة مودع مُتصالح مع حقيقةِ أنّه سيعود عـدماً كما كان، وأنّ الدنيا ما هي إلّا طريق قصير إلى حياةٍ أبديةٍ، فلنعمل لتلك الحياة كأنّنا نلقاها غداً.
المَوْتُ حَقٌّ وَلَيْسَ الدَّمْعُ مُبْطِلَهُ * وَلَو بَكَتْ أَسَفًا فَقْدَ امْرِئٍ أُمُمُ
لَوْ كَانَ يَسْلَمُ حَيٌّ مِنْ مُصِيبَتِهِ * لَجُنِّبَ المُصْطَفَى مَا خَطَّهُ القَلَمُ
إِنْ تَبْكِ فَابْكِ عَلَيْهِ فَهْيَ فَاجِعَةٌ * كُلُّ الفَوَاجِعِ مِمَّا بَعْدَهَا لَمَمُ