الأستاذ الدكتور محمد دياب غزاوي
وها قد اقترب وقت اللقاء, متعة لا تكاد تنتهي مع معشوق لا يمل لقاؤه بين الفينة والأخرى, لا أميل كثيرا إلى صنعها والجلد على إنضاجها؛ فهي تحتاج إلى صبر وتأنٍ ربما لا يتوافران في رجل مثلي, عقله وقلبه في حالة تفكير دائم وعمل مستمر, وبالرغم من عشقي لها فإن لقاءاتي معها محدودة, ربما ألتقيها مرة أو مرتين في اليوم والليلة, بيد أن العشق لا يقاس بكثرة اللقاء, ولا بطول الملازمة, فيكفي أن أراها, وأقترب منها, وأشتم رائحتها, فتنتعش كل ذرة من كياني, وتنتفض كل نبضة من أركاني, منظرها البني وهو يتأرجح مع بعض الفقاعات الصغيرة التي تنحسر عن لونها الداكن يثير في النفس أريحية الهدوء, وتناغم السكينة, أمسك فنجانها بيدي اليمنى, وأحيانا ما أحتضنه بكلتا يدي, أقربه من فمي, شيئا فشيئا, أغمض عيني وأنا قاب قوسين أو أدنى من سرمدية اللقاء, تتلمسه شفتاي, فأرتشف منه رشفة الخلود, تذوب في فمي, فتنتشي الروح, وحينها أسكر, وأسكر, وأنتقل من ثمة إلى عالم آخر, لا يُدْرك كنهه, ولا تُعْرف هويته, وكلما قاربت على الإفاقة أرتشفت ثانية, فثالثة, وما أفتأ هكذا حتى الثمالة, في عشق أبدي, وتمازج ماهوي, ولا أفيق إلا مع أطلالها وبقايا آثارها, فأظل محتفظا بها حينا من الدهر, وأنا أعيش على ذكراها, وأتملى فيما تبقى من نجواها.
وحدي كنت في هذا اليوم, لم يكن سوانا, ولم يكن بد من تجهيزها بنفسي, تركت كل شيء, فمن أجلها تبذل الأوقات؛ ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر, دلفت إلى المطبخ, جهزت المقادير؛ سكبت الماء, وملعقتين من البن, وشبه ملعقة من السكر, زادت الكمية عن مقدار الفنجان بعض الشيء, وعلى نار هادئة وضعت كل ذلك, قَلَّبْتُهَا بعناية, حتى تتغلغل كل الحُبَيْبَات مع الماء, بيد أنني بدأت أفكر وأفكر, ماذا عساي أن أفعل في الكمية الزائدة عن الفنجان؟! فهل أضعه في قدح آخر؟ أم يا ترى ماذا أفعل؟! أم أرتشفه ارتشافا ثم أضع الباقي في فنجاني؟! لم أحبذ ذلك؛ فأنا لا أشرب القهوة إلا بين الكتب وفي حضرة الإبداع, فمنزلة الأشياء تتحدد بأماكن وجودها, وبينما أفكر في موضع الرشفة الزائدة عن الفنجان, شممت رائحتها, يا الله! لقد حدث المحذور … ( فارت) القهوة, وضاع معظمها, بل راح أهم ما فيها ( الوش ), رشفات العشق الأولى التي لا تعادلها رشفات؛ إنا لله وإنا إليه راجعون, داخلني حزن شديد, سكبت ما تبقى في فنجاني المسكين, أمسكتها بيدي, متوجها إلى مكتبي بعد عملية فاشلة, مشتت الفكر انطلقت, وبينما أسير تعثرت قدماي, ولم أنتبه إلا على دموعها الدامية وقد افترشت الأرض!