يستمعون الصوت ويتجاهلون صداه
تقاس قيمة الأمم ، ليس فقط بما تملكه من ثروات وما تقدمه من صناعات، وما تمنحه من علوم وتكنولوجيا، بل أيضا بما تقدمه العقول المبدعة من أبنائها من إنتاج إنساني، وما تمنحه المواهب التي تنتمي لتلك الأمة من أعمال فنية خالدة، فهل يمكننا أن نقيس قيمة الأمة الإنجليزية، دون أن نقدر تقديرا هائلا ما نتج عن قريحة أديبها الأول وليم شكسبير الذي جعلوا المنزل الذي ولد فيه – ولد في النصف الثاني من القرن السادس عشر (١٥٦٤) وتوفى فيه في الربع الأول من القرن السابع عشر (١٦١٦)- مزارا سياحيا يحج إليه هؤلاء الناس – وما أكثرهم – الذين يدركون قيمة الأديب من مختلف أنحاء العالم.
وكما صنعت بريطانيا بمنزل أديبها الكبير صنعت النمسا بمنزل الموسيقي الفذ موتسارت الذي ولد27 يناير ١٧٥٦، بمدينة سالزبورغ وتوفي 5 ديسمبر ١٧٩١ بمدينة فيينا، والذي ترك إرثا موسيقيا خالدا، خاطب به المشاعر الإنسانية في كل بقعة من العالم، وسيظل عبر التاريخ، فاستحق أن تفخر به النمسا، كما استحق أن يتحول منزله في مدينة سالزبورج النمساوية إلى مزار سياحي حرصتُ – مثل غيري من المعجبين بالموسيقار الخالد – على زيارته، أثناء زيارتي للمدينة، كما حرصتُ على احتساء فنجان قهوة على نفس المقهى التي كان يجلس عليها الموسيقار الفذ، والتي لكونها كان يجلس عليها هذه الموهبة؛ فإن ثمنها يزداد يورو واحدا عن فنجان القهوة في أماكن أخرى.
تعلم الشعوب الراقية قيمة الفن وتقدره تقديرا كبيرا هائلا، حيث إن الفن مُهَذِّب للشعور، معبر عن الوجدان، مُرْتَقٍ بالنفس البشرية، ذلك الذي ليس هو دور الفن فحسب، فالفن هو جناح الطائر الذي تُحْمَل عليه آمال وطموحات الأمة، وهو المعبر عن الإنسان في مجتمعه، وهو الذي يُظهر البوصلة لعموم الشعب، لتتجه نحو الأمام محققة طموحاتها، ولذا يجب على الفنان معرفة الدور المنوط به بشكل واضح، هذا لا يعني بكل تأكيد أن يتحول الفنان إلى موظف يؤدي عملا للوصول إلى هدف، هذا لا نعنيه مطلقا، حيث إن ذلك يضع للفنان قيدا وحدودا معينة، وما برع فنان، ولا أبدع أديب، ولا أمتع مُصور أو رسّام، ما لم يتمتع بالحرية الكبيرة في أداء عمله، كما يتمتع بها في مجمل فكره، ومطلق خياله الذي لا تحده حدود ولا تمنعه موانع، بل نعني أن يدرك الفنان – وهو مدرك حتما – ملابسات الواقع الذي يعيشه، وقضايا مجتمعه الذي يحياه، وملابسات الحياة التي يخوضها.
إن المجتمعات المتخلفة لا تدرك قيمة الفن، ولذا تقيّم الفنون بمقاييس ليست فنية، بل إنها تخضع الفن – في خطأ بل خطيئة كبيرة – إلى مقاييس خُلِقية مرة ودينية أخرى، فهم يخلطون في تقييمهم بين المقاييس التي يجب أن تحكم على العمل الفني “الفيلم السينمائي هنا مثالا” وبين خطبة في مسجد أو عظة في كنيسة، وهم يخلطون في التقييم بين قصيدة تلقى ودرس ديني أو خطاب سياسي، وشتان ما بين هذا وذاك، وشتان ما بين مقاييس هذه وتلك. إنهم ينصتون للصوت، ولا يستمعون إلى صداه.
فالعمل الفني ليس كخطبة الجمعة وإن الشاعر المجيد الموهوب المتمكن من أدواته، حينما يمر بتجربة شعرية صادقة فإنه يمنحنا من الشعر ما يمكن أن يصبح تأثير بيت شعر واحد أقوى عشرات المرات من خطبة جمعة لأحد الخطباء البلغاء، ولقد ذكر لي صديق عن الشاعر الراحل الدكتور محمد رجب البيومي – ولقد كان أستاذا بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف – هذا الصديق ربطته علاقة نسب بالشاعر الراحل، حيث قال إن بيت الشعر الذي صاغه الشاعر الهندي محمد إقبال في قصيدته “حديث الروح” والتي ترجمها من اللغة الأردية إلى العربية الصاوي شعلان وشَدَت بها سيدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم ولحنها الموسيقار رياض السنباطي هذا البيت الذي يقول:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ::: ولا دنيا لمن لم يحي دينا
إن تأثير هذا البيت – والكلام على عهدة الصديق مازال على لسان الشاعر الراحل الدكتور محمد رجب البيومي – كان له تأثير على المتلقين يفوق العشرات من خطب الجمعة، وإني – إن صح نسبة الكلام- أتفق تمام الاتفاق مع الدكتور الراحل.
إن تأثير الفن تأثير غير مباشر، وكما هو معروف فإن النفس البشرية تنفر من الأوامر، وتستثقل النواهي، هذان اللذان لا يلجأ لهما الفن، ويلجأ لهما الخطباء والوعاظ، ولكل دوره الذي نحترمه، ونجله.