رئيس التحرير

ما بين اللغة والتقدم .. علاقة طردية

بهجت العبيدي

إن أظهر ما تقدمه الأمم المتحضرة هو مساهمتها الحقيقية في الرقي بالإنسان، وذلك من خلال ما تسهم به، ليس فقط من منجزات علمية، بل أيضا من خلال قيم حضارية تعمل هذه الأمم المتحضرة على ترسيخها في الوجدان العام لأبنائها، منتقلة من خلالها، عبر التأثير الذي يخضع في جانب من جوانبه للغة التي تتحدث بها هذه الأمة أو تلك، منتقلة إلى غيرها من الأمم حيث يجب ان تكون تلك القيم إنسانية عالمية.

إن العالم يعترف ويعتز بتلك اللغات التي منحت حضارتها للإنسانية قيما خالدة، ومن بين تلك الأمم التي لا ينكر فضلها الحضارة العربية الإسلامية التي كانت منارة للعقل الإنساني في عصورها المزدهرة، ومن هنا جاء الاحتفاء العالمي باللغة العربية، والذي له دلالة كبيرة، منها أن هناك اعترافا من شعوب العالم المختلفة بمكانة هذه اللغة التي يتحدث بها كلغة أم دول الجامعة العربية، كما يسعى لتعلمها الملايين من أبناء العالم الإسلامي، حيث يتحدثها وفق آخر إحصاء 467 مليونا تحتل بهم المرتبة الرابعة بين لغات العالم بحسب أعداد الناطقين للغات، التي تصدرت اللغة الصينية قائمتها بـ 1036 مليون، تلتها اللغة الإنجليزية في المرتبة الثانية بـ 618 مليونا، أما اللغة الهندية/الأوردو فقد سبقت اللغة العربية من حيث عدد المتحدثين بها والذين بلغ عددهم 487 مليونا.
وعلى الرغم من هذا الترتيب، فإن اللغة الإنجليزية هي اللغة المسيطرة على العالم والتي تسعى كل الأجناس إلى تعلمها.

إن اللغة تسود بسيادة الناطقين لهذه اللغة، وتتراجع بتراجع حال أهلها، وهذه الحال يثبتها التاريخ، ويؤكدها الواقع المعاش؛ فالتاريخ يرينا كيف أن اللغة العربية كانت مقصدا لكل من يسعى لتحصيل العلم، ولكل من ينشد التطور، حينما كان أهل اللغة العربية يعلون من قيمة العلم، ويتصدرون الأمم في التقدم العلمي، والحالة الثانية نراها بأم أعيننا في سعي شعوب العالم لتعلم اللغات الأجنبية التي يسهم أهلها بسهم وافر في التقدم العلمي والتكنولوجي.

إن العديد من علماء اللغة: قديما وحديثا توقفوا عند مفهوم اللغة، وأهميتها، وهل هي مجرد وعاء للأفكار؟ أم أنها إلى جانب ذلك لها دور في تشكيل وعي الجماعات البشرية، ومما تناول ذلك بجدية مبحث اللغة العربية والبحث العلمي الجامعي في الوطن العربي، حيث توقف عند تعريف علماء اللغة المحدثين الذين جعلوها “أداة تواصلية واصفة”، وإذا كان ثمة شيء يمكن أن ينوب عنها تحليلا أو تفسيرا من العلامات غير اللغوية، كالرموز والأرقام، فلابد منها لكي يستدل بها عليها ويهتدى بها إلى معانيها ويوصل بواسطتها إلى الدلالات المقصودة منها.

وبذلك غدت -على حد تعبير تمام حسان – “منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع تشتمل على عدد من الأنظمة يتألف كل واحد منها من مجموعة من المعاني تقف إزاءها مجموعة من المباني المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من العلاقات التي تربط فيما بينها”. فهي من أرقى المؤسسات الاجتماعية لأن بناء المؤسسات الأخرى يتطلب سبق وجودها فيما هي غير محتاجة بالضرورة في وجودها إلى مؤسسات غيرها كما أن العلوم بمختلفها بحاجة إليها لأنها بها توجد وبتطورها تتطور.

وأكد ذلك البحث أن للغة دورا في تشكيل وعي الجماعة وسلوك أفرادها، فهي تصف واقع أهلها وتعكس فكرهم وحضارتهم وتطورهم، وكونها وعاء الفكر فهذا يعني أنها من أشيع الوسائط المعتبرة للأداء الاجتماعي العام، بها يُسجَّلُ إنتاج الأمة، وبها تُدوَّن ثقافَتُها، ومعارفُها وتاريخُها، وباللغة تستطيع الأمة صوْغَ مقوِّمات وخصائص وجودها، و”قوةُ اللغةِ في أمةٍ تعني استمراريةَ هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم لأن غلبةَ اللغةِ بغلبةِ أهلها، ومنزلتَها بين اللغات صورةٌ لمنزلة دولتِها بين الأمم” على حد تعبير ابن خلدون أيضا. وبين اللغة والثقافة والحضارة علاقات ترابطٍ قوية؛ فإذا كانت اللغة أداةَ التعبير الثقافيِّ وسجلَّ الحضارة؛ فإن إنتاجات وتجارب الإنسان الثقافية والحضارية إنَّما تُدوَّن في قوالب تعبيرية ونصوص لغوية حافظة.

ومع تدهور العالم العربي في كثير المجالات وعلى الرأس منها المجال العلمي، في ذات الوقت الذي يشهد العالم الغربي صحوة علمية هائلة، شعر الإنسان العربي بحالة كبيرة من الإحباط، أدت إلى هزيمته هزيمة نفسية، رأى نفسه بسببها في رتبة أقل من نظيره الغربي، وكما يقول عالمنا العربي الكبير ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع: إن الشعوب المنهزمة تقلد الشعوب المنتصرة، ذلك الذي يتحقق في حالنا اليوم حيث يتخلى العربي على الكثير من قيمه ليحل محلها القيم الغربية، كما يأتي في تقليده على لغتتا العربية، فينصر عليها لغة القوم المنتصرين، ليذهب مُسْتَغْربًا في تعاملاته، مستخدما اللغات الأجنبية وعلى رأسها اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ما جعل لغتنا تفقد أحد أهم أسلحتها في مواجهة التحدي الذي تواجهه، وهو عدم وقوف أهلها معها وانتصارهم لها.

إن ما نعانيه في عالمنا العربي من تأخر علمي جعل لغتنا العربية قاصرة عن مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي الكبير في عالم اليوم، ما دفع لاستخدام أسماء المخترعات الجديدة بنفس اسمها الذي وضعه أبناء اللغة التي اخترعتها، وذلك يضع مسئولية كبيرة على مجامع اللغة العربية المنتشرة في العديد من الدول العربية، التي يجب أن تعمل على إقامة مشاريع قومية يكون هدفها هو تعريب المصطلحات العلمية، ووضع أسماء لجميع المخترعات الجديدة، بالإضافة لمشروع قومي لترجمة الكتب العلمية من اللغات المختلفة، وكذلك الكتب الأدبية الهامة، والنظريات الفلسفية، وبمعنى أشمل نطالب بمشروع قومي لنقل كافة المعارف الحديثة إلى لغتنا العربية، في محاولة حقيقية منا لنصرتها، في محاولتنا لنصرة أنفسنا للخروج من هذه الحال التي لا تليق بأمة قدمت في فترة من تاريخها – حينما انتصرت للعقل، واحترمت العلم – للإنسانية الذي مازال ليومنا هذا مرجعا هاما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى