مختاراتمقالات

أورد الرافعي -رحمه الله- في الجزء الأول من “وحي القلم” مقالة بعنوان “حديث قطين”، أجرى فيها حوارًا ماتعًا بين قطين، أحدهما سمين أليف والآخر حر طليق لكن نحيل.

وما أراد الرافعي بالحوار إلا أن يكون حوارًا بين صنفين من بني البشر: أولهما قد ركن إلى لذة معدته وما يأتيه من طعام وشراب، وآخر لم ينس أصله ولا متعة الحرية الممنوحة له.

وهذا جزء من المقالة:

كان القط الهزيل مرابطًا في زقاق، وقد طارد فأرةً فانجحرت في شقٍّ، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرِّجَ عن نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم، وأبصر الهزيلَ من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلَّعُ تخلُّعَ الأسد في مشيته، وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطَتْه النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظًا، وفي عصبه شدة، وفي شعره بريقًا، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشقُّ سمنًا وكدنة، فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له؛ إذ رآه نحيفًا متقبِّضًا، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما هَمَّتْ عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوًى آخر.

فقال له: ماذا بك؟ وما لي أراك متيبسًا كالميت في قبره غير أنَّك لم تمت؟ وما لك أُعطِيتَ الحياة غير أنك لم تحيَ؟ أَوَليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد؟ فما لك — ويحك — رجعتَ صورة مختزلة من الهر؟ أفلا يسقونك اللبن، ويطعمونك الشَّحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتُّون لك الخبز في المرق، ويُؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدلِّلك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه …؟ وما لجلدك هذا مغبرًّا كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهده بتنظيف، وكأنك لم ترَ قَطُّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقًا في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؟ وأراك متزايل الأعضاء متفكِّكًا حتى ضعُفتَ وجَهدْتَ، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدرٍ من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدرٍ من نعيمك ورفاهتك، وكأنَّ جنبيك لم يعرفا طِنْفِسَةً ولا حَشِيَّةً ولا وسادةً ولا بِساطًا ولا طِرازًا، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس، فما له لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار؟!

قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبنًا وسمكًا، وجبنًا وفُتاتًا، وإنك لتقضي يومك تَلْطَع جلدك ماسحًا وغاسلًا، أو تَتَطَرَّح على الوسائد والطنافس نائمًا ومتمددًا؟! أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معًا، وصلحتْ لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمتَ طبعًا ونقضت طِباعًا، وربحتَ شبعًا وخسرتَ لذة! عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرتَ معهم كالدجاجة تُسَمَّن لتُذبح، غير أنهم يذبحونك دلالًا ومَلالًا.

إنك لتأكل من خِوَان أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة ثم لا شيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها.

إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها؛ والبطنُ لا يتجاوز البطنَ ولذَّتُه لذَّتُه وحدها، ولكن أين أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومتاع أرواحنا، وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قِبَل الجسم كله، لا من قبل المعدة وحدها؟!

قال السمين: تالله لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بإزائك معدومًا بزوال أسلافي مني، وأراك بإزائي موجودًا بوجود أسلافك منك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي تعلو بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع، وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من الرضا؟

فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله. أما علمتَ — ويحك — أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة، وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب، وسُعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعامًا آخر من الروح، وأن ما عُدِل به عنك من الدنيا لا تعوِّضك منه الشحمة واللحمة؟ فإن رغباتنا لا بد لها أن تجوع وتغتذي كما لا بد من مثل ذلك لبطوننا؛ ليُوجِدَ كلٌّ منهما حياتَه في الحياة. والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فإن لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.

وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغُرتْ أَجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصًا يحده ويحبسه، فصغُرَ هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد؛ أما أنا فأسدٌ على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدًا تتسع ولا تزال تتسع أبدًا، وإن الحرية لتجعلني أتشمَّم من الهواء لذَّة مثل لذَّة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خَلَّتان من خلال النفس: أما واحدةٌ فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلًا، وهذه ليست لمثلي ما دمتُ على حد الكَفَاف من العيش؛ وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليلَ غيرَ قليل، وهذه ليس لها مثلي ما دمتُ على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قِبَل الذات، لا من قِبَل الأسباب والعلل، فمن جاراها سَعِد بها، ومن عَكَسها عن مجراها فبها يشقَى.

ولقد كنتُ الساعة أَخْتِلُ فأرة انجحرتْ في هذا الشق، فطعِمتُ منها لذة وإن لم أُطعم لحمًا، وبالأمس رماني طفلٌ خبيث بحجر يريد عَقْري فأحدث لي وجعًا، ولكن الوجع أحدث لي الاحتراس، وسأغشَى الآن هذه الدار التي بإزائنا؛ فأية لذة في السَّلَّة والخطفة والاستراق والانتهاب ثم الوثب شدًّا بعد ذلك؟ هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والنهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جُرَذ، أو أدركت يومًا فرحة النجاة بعد الرَّوَغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوَّلك طفل بالضرب، فهوَّلته أنت بالعض والعقر، ففرَّ عنك منهزمًا لا يلوي؟

قال السمين: وفي الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟! هَلُمَّ أتوحش معك ليكون لي مثل نُكْرِك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك، وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه …

فقطع عليه الهزيل وقال: يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامةَ أَسْرِك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيرًا، وأهوى عليَّ بالضرب لأنطلق حرًّا، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاءٌ عليَّ.

وكانت الفأرة التي انجحرتْ قد رأت ما وقع بينهما، فسرَّها اشتغال الشر بالشر … وطالت مراقبتها لها حتى ظنت الفرصة ممكنة، فوثبت وثبة من ينجو بحياته ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل كما تلمحُ العينُ برقًا أومض وانطفأ، فقال للسمين: اذهب راشدًا، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة، أنَّ الوقوف معك ساعة هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى، وبمعانيهم في الأسفل …

#الرافعي

ج.م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى