قصة قصيرة بعنوان (فرصة ضائعة) تأليف: أنطون تشيخوف ترجمة: عبد الله حبه
أود أن أنتحب بكل كياني! ويبدو لي أن حالي ستكون أفضل لو أطلقت النشيج باكياً. كانت الأمسية رائعة. فارتديت أبهى حلة، ومشطت شعري، وتعطرت وتطيبت، وتوجهت إليها مثل دون جوان؟ كانت تعيش في الداتشا (البيت الريفي) في منطقة سوكولنيكي. إنها شابة وحسناء ولها بائنة تبلغ 30000، كما أنها متعلمة إلى حد ما، وتحبني أنا المؤلف مثل عشق القطة.
وصلت إلى سوكولنيكي فوجدتها جالسة على مصطبتنا المحبوبة تحت أشجار الشوح السامقة والممشوقة. وعندما رأتني نَهَضَت مسرعة وهبت للقائي مشرقة الوجه متهللة الأسارير.
وقالت:
– يا لك من قاس! هل يمكن أن تتأخر بهذه الصورة؟ فأنت تعرف كم أنا مشتاقة! تباً لك!
لثمت يدها الحلوة، ومضيت معها، وقد راودتني خلجات ارتعاش النفس، إلى المصطبة. راودتني الخلجات في صدري وتملكتني سورة انفعال وشعرت بأن قلبي يلتهب ويكاد ينفجر، ونبضي ساخن.
وليس عجباً! فقد جئت لكي أقرر مصيري نهائياً. إما أن أكسب، وإما أن أخسر… وكل شيء يتوقف على هذا المساء. كان الجو رائعاً، لكني لم ألق بالا إلى الجو. وحتى لم أسمع تغريد العندليب فوق رأسينا، بالرغم من أن الواجب أن يصغي المرء إليه في أي موعد غرامي مهما قل شأنه.
سألتني وهي تتطلع إلى وجهي:
– ما لك صامت؟
– لا شيء… الأمسية رائعة… هل إن صحة ماماتك على ما يرام؟
– إنها في أتم عافية.
– حم… إذن… إنني أريد، يا فارفارا بتروفنا، التحدث إليك… أنا جئت من أجل هذا فقط… إنني لزمت ولزمت الصمت، أما الآن… أنا خادمك المطيع! ليس بوسعي أن أصمت…
طأطأت فاريا رأسها وقطفت زهرة بأصابع مرتعشة. فقد كانت تعرف عما أردت الحديث. صمت ثم واصلت الكلام:
– لم الصمت؟ فمهما صمت المرء، ومهما وجل قلبه فلا بدّ عاجلاً أم آجلاً أن يطلق العنان… لمشاعره ولسانه. ربما إنك تشعرين بالإهانة… ربما لن تفهمي، ولكن… ما العمل؟
لزمت الصمت. كان الواجب صياغة العبارة المناسبة. لكن عينيها أبدتا الاعتراض: «قل في نهاية الأمر! يا ضعيف الشخصية، فلم تعذبني؟».
وواصلت الكلام بعد فترة صمت قصيرة:
– أنتِ طبعاً قد حدست سبب مجيئي كل يوم إلى هنا وإزعاجك بحضوري المستمر. كيف لا تحدسين؟ وفي أغلب الظن أنك حدستِ منذ وقت بعيد، بما تتسمين به من فطنة وفراسة، ذاك الشعور الذي يعتمل في… (صمت) فارفارا بتروفنا!
انحنت فاريا أكثر. وتراقصت أصابعها.
– فارفارا بتروفنا!
– قل؟
– أنا… ماذا يجب أن أقول؟ فالأمر مفهوم بلا كلام… أنا أحبك، وهذا كل ما في الأمر… ماذا يمكن أن يقال بالإضافة إلى ذلك؟ (صمت) إنني أحبك حباً جماً. أنا أحبك بقدر… موجز القول، اجمعي كافة الروايات الموجودة في هذه الدنيا، واقرئي جميع المصارحات بالحب والعهود والتضحيات الموجودة فيها… فستحصلين على… ما يعتمل في أعماقي… فارفارا بتروفنا! (صمت) فارفارا بتروفنا! ما لك صامتة؟!
– ما بك؟
– يا ترى هل إنها… لا؟
رفعت فاريا رأسها وابتسمت.
ففكرت: «آه، ليأخذني الشيطان!». أما هي فقد ابتسمت، وحرکت شفتيها، وغمغمت بصوت لا يكاد يسمع: «لم لا؟».
فأمسكت يدها بعنف، وقبلتها بعنف، وأمسكت اليد الأخرى بجنون… إنها شاطرة!… وفيما انشغلت بتقبيل يديها وضعت رأسها على صدري، علماً أنني أدركت لأول مرة أية روعة تكمن في شعرها البديع.
قبلت رأسها، وشعرت بسخونة شديدة في صدري كما لو وضع فيه سماور. ورفعت فاريا رأسها، فلم يتبق لدي سوى تقبيلها في شفتيها. وعندما أصبحت فاريا نهائياً بين ذراعي، وحين تقرر موضوع تسليمي الثلاثين ألفاً وأصبح جاهزا للتوقيع، وصفوة القول حين ضمنت تقريبا الحصول على زوجة حسناء ونقود جيدة ومستقبل مهني جيد، لا أدري أي شيطان دفعني لإطلاق لساني…
لقد أردت أن أبرز نفسي أمام زوجتي القادمة وأتباهي بمبادئي. علماً بأنني نفسي لم أعرف ماذا أريد… وكانت النتيجة سيئة للغاية…
فقلت بعد القبلة الأولى:
– فارفارا بتروفنا! قبل أن آخذ منك كلمة بأن تصبحي زوجتي – أعتبر أن واجبي المقدس، لتجنب الالتباس الذي قد يحدث، أن أورد عدة كلمات! سأوجز في القول… أنت تعرفين، يا فارفارا بتروفنا، من أنا وما هي أحوالي؟ نعم، أنا شريف! أنا كادح! أنا… أبي النفس! زد على ذلك… لدي مستقبل… لكني فقير… لا أمتلك شيئاً.
قالت فاريا:
– أنا أعرف ذلك.
– نعم… ولكن من يتكلم عن النقود؟ أنا… فخور بفقري. إن الكوبيكات التي أتلقاها مقابل أعمالي الأدبية، لن أبادلها بالآلاف… التي… التي…
– مفهوم. وبعد!
– أنا اعتدتُ حياة الفقر. أنا أقبل بها. وبوسعي ألا أتناول الغداء طوال أسبوع كامل… لكن أنتِ! أنتِ! هل يصدق بأنك التي لا تستطيعين القيام بخطوتين، من دون استئجار حوذي، وترتدين في كل يوم فستاناً جديداً، وتبعثرين النقود هنا وهناك، ولم تعرفي العوز أبداً، أنت التي تعتبرين مصيبة كبيرة عدم وجود زهرة لديك تماشي الموضة، – هل يعقل أنك توافقين على التخلي عن الثروات الدنيوية من أجلي؟ حم…
– لدي المال. ولدي البائنة!
– هراء! إن عدة عشرات الآلاف تكفي للعيش لمدة عدة سنوات فقط. وماذا بعد؟ العوز؟ الدموع؟ ثقي، يا عزيزتي، بخبرتي! أنا أعرف! أعرف ما أقول! ينبغي من أجل مقارعة العوز أن تتوفر الإرادة القوية، والطبع غير البشري!
فكرت في دخيلة نفسي: «ما لي أهرف هذا الكلام!»، وواصلت:
– فكري، يا فارفارا بتروفنا! فكري في الخطوة التي تقومين بها! إنها خطوة لا رجعة فيها! لئن توفرت القوة فاتبعيني، وإذا لم تتوفر القوة للكفاح – فارفضي طلبي! أوه! الأفضل أن أفقدك… من أن تفقدي حياتك الهانئة! إن الروبلات التي يعطيني الأدب إياها في كل شهر، هي لاشيء. إنها لن تكفي! فكري في الأمر قبل فوات الأوان! وقفزتُ من مكاني.
فكري! حيثما يكون العجز – تكون الدموع والملامة والشيب المبكر… أنا أحذرك لأنني رجل شريف. إذا شعرتِ بأن لديك من القوة من أجل مشاركتي الحياة التي لا يشبه مظهرها الخارجي حياتك، فهي غريبة عنك؟ (صمت).
– لكن لدي البائنة!
– كم مبلغها؟ عشرون، ثلاثون ألفاً؟ ها – ها! مليون؟ بالإضافة إلى ذلك هل سأسمح لنفسي بالاستحواذ على ما هو… كلا! أبداً! أنا عزيز النفس!
ومشيتُ جيئة وذهاباً عدة مرات بالقرب من المصطبة. بينما استغرقت فاريا في التفكير. لقد انتصرت. معنى ذلك أنها محضتني الاحترام ما دامت قد استغرقت في التفكير.
– إذن، هل الحياة معي ومعاناة الحرمان أم العيش من دوني مع الغنى… اختاري… هل لديك القوة؟ هل توجد القوة لدى عزيزتي فاريا؟
لقد تحدثتُ طويلاً على هذا المنوال. وانهمكث في الأمر دون أن الحظ ذلك. كنتُ أتحدث وفي الوقت نفسه
أشعر بازدواجيتي. فنصفي انشغل بما كنت أقول، والنصف الآخر وافته الأحلام:«تمهلي، يا أماه! سنعيش بمبلغك الـ 30000 حتى تصبح السماء ملتهبة. وسيكفي لمدة طويلة».
أصغت فاريا، وأصغت… وأخيراً نهضت ومدت لي يدها. قالت:
– شكراً لك! – قالت هذا . بصوت جعلني أرتجف وأحدق في عينيها. كانت الدموع تترقرق في عينيها وعلى خديها.
– أشكرك! حسناً فعلت أن كنت صريحاً معي… أنا ابنة نعمة. أنا لا أستطيع… لست أليق بكَ كزوجة…
– أنتَ على حق. إذا ما تزوجتكَ، فسأخدعك. أنا لا أصلح كزوجة لك. أنا ثرية، ابنة عز ونعمة، أتنقل في العربات، وأكل طيور الشنقب والمعجنات الغالية الثمن. أنا لا آكل أبدأ في وقت الغداء الحساء بالملفوف. وأمي توبخني دائماً… بينما أنا لا أستطيع العيش من دون ذلك! أنا لا أستطيع السير مشياً على الأقدام… إذ يصيبني الإجهاد… ثم الفساتين… يجب أن تدفع ثمن خياطتها كلها… كلا! وداعاً.
وقامت بحركة تراجيدية بيدها، ثم قالت بلا أي سبب:
– أنا لست جديرة بك! وداعاً!
قالت هذه العبارة واستدارت ومضت راجعة من حيث أتت. أما أنا؟ لقد وقفت كالأبله بلا تفكير، وتابعتها بنظري وشعرت أن الأرض تهتز تحتي. وعندما استعدت رشدي وتذكرت أية دناءة خسيسة سببها لي لساني، أخذت أعول وأولول. لقد اختفى أثرها حين أردت أن أصرخ داعيا إياها: «ارجعي!!…».
قفلت راجعاً إلى البيت مكللاً بالعار وخالي الوفاض. ولم تكن هناك حافلة عند مدخل المدينة. كما لم توجد لدي النقود لاستئجار عربة. فاضطررت للسير مشياً على الأقدام.
وبعد ثلاثة أيام ذهبت إلى سوكولنيكي. وقيل لي في الداتشا إن فاريا مريضة بداء ما وتعتزم السفر مع أبيها إلى بطرسبورغ، إلى الجدة. ولم أفلح في استجلاء حقيقة الأمر…
الآن أنا أستلقي على الفراش، وأعض الوسادة وألطم قذالي. ثمة قطط تخدش… روحي. أيها القارئ، كيف أصلح ما فسد من الأمر؟ كيف أعيد كلماتي إلى الوراء؟ ماذا سأقول أو أكتب لها؟ هذا ما لا يدركه العقل. لقد ضاعت الفرصة… وبأية حماقة ضاعت؟
-تمت-