التواضع المعرفي… حين يتصالح الإنسان مع جهله الجميل

مشغل الصوت
بقلم: هدىحجاجي أحمد
في خضمّ الصراع الدائم الذي يخوضه الفكر الإنساني بين الشكّ واليقين،
نكتشف أن المعرفة ليست غايةً نهائيةً، بل رحلة تساؤلٍ مستمرة،
طريقٌ تتبدّل معالمه كلما خطونا فيه خطوةً أبعد.
فما نعدّه اليوم يقينًا قد يصبح غدًا مجرد احتمال،
وما نستهين به الآن قد يتجلّى بعد حين كنافذةٍ جديدةٍ على الفهم.
لقد ظنّ الإنسان طويلًا أن امتلاك الحقيقة يُعطيه سلطةً على الوجود،
لكنّ الحقيقة لا تُمتلك، بل تُستنار بها.
هي ليست حجرًا في يدٍ واحدة، بل ضوءٌ يتوزّع بين العقول والقلوب.
فكلّ وعيٍ إنسانيٍّ يحمل ظلّه،
وكلّ فكرٍ مهما سما، لا ينجو من حدود الزمان والمكان اللذين صاغاه.
ولذلك، فإنّ التواضع المعرفي ليس ضعفًا في العقل،
بل هو قمّة نضجه، لأنه يعلّمنا أن نرى بعيونٍ غير أعيننا،
وأن نستمع إلى صدى أفكارنا في أصوات الآخرين دون أن نخاف من اختلاف النغمة.
—
التواضع المعرفي هو لحظةُ وعيٍ نقول فيها لأنفسنا:
“ربّما كنت مخطئًا… وربّما في صوت الآخر ما يُكمل صمتي.”
هو إيمانٌ بأنّ الحقيقة لا تسكن عقلًا واحدًا،
وأنّ الحوار بين العقول هو السبيل إلى بناء معرفةٍ أكثر إنصافًا واتزانًا.
فالفكر الذي لا يتّسع لغيره يتحوّل إلى سجنٍ مغلق،
والمعرفة التي لا تحتمل المراجعة تموت في جمودها.
حين نمارس التواضع في التفكير،
نكتشف أن الهدف من المعرفة ليس الانتصار في الجدل،
بل بناء الجسور بين الضفاف المتقابلة.
وأن السؤال، لا الجواب، هو ما يُبقي الفكر حيًا.
إنه إدراكٌ ناضج بأن العقل الذي يعرف حدوده هو الأقدر على تجاوزها،
وأنّ المسافة بين الشكّ واليقين ليست هوّةً مخيفة،
بل فضاءٌ رحبٌ للبحث والنمو.
—
يحتاج العالم اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى،
إلى هذا التواضع المعرفي الذي يُنقذ الإنسان من غروره الفكري،
ويذكّره بأن العلم دون رحمةٍ يصبح أداةَ هيمنة،
وأن الفهم دون محبةٍ يتحوّل إلى قسوةٍ خفيّةٍ تُقصي الآخرين.
نحن لا نختلف لأننا نخطئ، بل لأننا نرى من زوايا متعددة،
ولأن اختلافنا هو الذي يصنع الصورة الكاملة،
تمامًا كما لا يكتمل الضوء إلا بتدرجاته.
—
إنّ الاعتراف بجهلنا لا يُهيننا،
بل يُعيد إلينا تواضع الكائن الباحث عن معنى،
ذلك الذي يعرف أن الكون أوسع من خرائطه،
وأن اليقين النهائي ليس إلا وهماً جميلًا يسكن لحظاتنا الآمنة.
فما أجمل أن يتصالح الإنسان مع جهله الجميل،
أن يدرك أنّ هذا الجهل ليس نقصًا، بل دافعًا للبحث،
أن يرى في كل سؤالٍ بذرة حياة،
وفي كل اختلافٍ مساحةَ تعلّمٍ جديدة.
في النهاية،
ليس الغاية أن نمتلك الحقيقة،
بل أن نتشاركها، أن نبحث عنها معًا،
بإيمانٍ عميقٍ أن ما نجهله اليوم قد يكون غدًا مصدرَ نورٍ لنا جميعًا.
فالتواضع المعرفي ليس مجرّد فضيلة فكرية،
بل هو موقفٌ إنسانيٌّ يمنحنا القدرة على البقاء متّسعين،
قادرين على رؤية العالم بعيونٍ أقلّ كبرياءً… وأكثر حبًّا.
—
هدى حجاجي أحمد
كاتبة وباحثة مهتمة بالفكر الإنساني والفلسفة الوجودية،
تسعى في كتاباتها إلى ملامسة المساحات الخفية بين الإنسان ومعناه،
وتؤمن أن الكلمة، حين تتواضع، تصبح طريقًا إلى النور.



