الهوية المصرية بين الموجة المتوسطية والجذر الجغرافي: حوار الأجيال بين طه حسين وجمال حمدان

مشغل الصوت
بقلم بهجت العبيدي
ظلّت مصر، بتاريخها الممتد كالنيل، حائرة بين قبلتين: ضوء المتوسط المنفتح، ودفء الشرق الأصيل. هذا الانشطار لم يكن مجرد صراع جغرافي، بل تجسّد في واحدة من أعمق المعارك الفكرية التي شهدها العقل المصري الحديث، بين عميد الأدب العربي طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، وعبقري الجغرافيا جمال حمدان في سبعينياته. لقد كان السؤال جوهريا: أين تنتمي مصر حقا؟ هل هي ابنة المتوسط الحديث أم وريثة محيطها العربي المترامي؟
طه حسين: الإرادة الحضارية وخيار العقل المتوسطي
حين خطّ الدكتور طه حسين كتابه الأيقوني “مستقبل الثقافة في مصر” عام 1938، كان يتنفس في زمنٍ مشحون بالقلق على المصير. كانت أطروحة كتابه بمثابة صرخة تحرير للعقل المصري من قيود الانغلاق والماضي المتصلب. لقد ارتكزت رؤيته على فرضية جريئة: مصر تنتمي إلى البحر المتوسط، لا إلى الصحراء.
بالنسبة لعميد الأدب، لم يكن الانتماء مسألة عرق أو دين خالص، بل هو اختيار حضاري واعٍ. لقد رأى طه حسين أن التاريخ المصري برمته، من الفراعنة حتى عصر محمد علي، ظلّ مشدودا إلى حوض المتوسط، وأن النيل نفسه هو شريان حيوي ينتهي إلى هذا البحر. كان البحر المتوسط في نظر طه حسين ليس مجرد مسطح مائي، بل هو دائرة حضارية كونية جمعت أثينا وروما وباريس والقاهرة والإسكندرية على خط واحد من الفكر، والعقل، والتنوير.
“إن مصر جزء من أوروبا.” هذه الجملة الشهيرة التي ذكرها عميد الأدب العربي، في كتابه سالف الذكر، لم يقصد بها دعوة إلى “التغريب” أو “القطيعة” مع الشرق، كما فُسّرت غالبا. بل كانت دعوة إلى تحرير العقل من التقليد الأعمى والأخذ بـمنظومة العقل الغربي التي تقوم على احترام القانون، والتنظيم الدقيق، والتعليم العصري، وروح النقد العلمي. لقد كان طه حسين يرى أن الثقافة ليست ميراثا جامدا نكتفي باستهلاكه، بل هي اختيار إرادي للمستقبل. والتعليم في رؤيته – وهكذا نذهب نحن أيضا – هو الجسر الذهبي للعبور، والطريق الوحيد للاستقلال الثقافي الحقيقي. لقد أراد لمصر أن تكون شريكا في صنع الحضارة، كما شاركت أوروبا ذات يوم عندما نهلت من علوم العرب والمسلمين.
لقد كان طه حسين يحاول أن يوقظ في الوعي المصري رسالة الجسرية التاريخية: أن مصر هي نقطة التقاء لا انفصال، وأن قيمها الحقيقية هي قيم العقل التي توحّدها مع العالم، دون أن تفقد لغتها العربية أو روحها الفرعونية.
️ جمال حمدان: عبقرية المكان وتكامل الهوية الجغرافية
بعد أربعة عقود، وفي ذروة المد القومي العربي، عاد سؤال الهوية ليُطرح بلسانٍ آخر، ولكن هذه المرة على يد عالم الجغرافيا الفذ الدكتور جمال حمدان في دراسته الموسوعية “شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان”.
فبينما وضع طه حسين البحر المتوسط في المركز الثقافي، أعاد حمدان صياغة المشهد بوضع النهر في مواجهة الصحراء، والبحر في مواجهة اليابسة. لم يكن الأمر صراعا بين الحضارات بالنسبة لحمدان، بل توتر خلاق بين مكونات جغرافية متناقضة تصنع تفرّد الشخصية المصرية.
لقد رفض جمال حمدان النظرة التي ترى في الصحراء مجرد نقيض سلبي للحياة. بل اعتبر أن الهوية المصرية تتشكل من هذا التفاعل الديناميكي بين ثلاثة أبعاد متكاملة: البُعد المتوسطي: الذي يمثل الانفتاح على العالم ومهد الحضارات القديمة.
والبُعد الأفريقي: الذي يمثل الجذر العميق في القارة السمراء ونبع النيل.
والبُعد الآسيوي/العربي: الذي يمثل الامتداد البري والحضاري واللغوي.
في رؤية جمال حمدان، تتجلى عبقرية مصر في موقعها “المتوسطي الملامح، الآسيوي الجذور، الأفريقي الموطن”. وهي ليست مُجبرة على الاختيار بين أقطابها؛ فجغرافيتها قدّرت لها أن تكون صندوق الأدوات الذي يجمع كل هذه المكونات، لتصنع شخصية متوازنة، وجامعة، ومفردة في ذات الوقت. كان جمال حمدان يعطي الثقل الأكبر للجغرافيا كقدر، وكوعاء يحوي التاريخ، مؤكدا على التكوين الذاتي الفريد للهوية المصرية التي لا تذوب في الشرق ولا في الغرب.
في التحليل الأعمق، يمكن القول إن طه حسين وجمال حمدان لم يكونا في صراعٍ قط، بل كانا في حوار طويل حول أفضل طريق يمكن لمصر أن تسلكه لتكون “نفسها” في خضم عالم دائم التغير.
طه حسين اختار الإرادة الحرة والخيار التحديثي، داعيا إلى النظر عبر البحر للاقتران بقيم العقل الأوروبي.
أما جمال حمدان فأكد على حتمية الجغرافيا وحكمة التوازن، داعيا إلى تأكيد الذات المصرية المتفردة الجامعة لأطرافها.
وفي عصرنا الحالي، لا سيما بعد النقاشات المستفيضة المهلكة التي أثارها افتتاح المتحف المصري الكبير، وفي ظل تنامي تأثير العولمة وتداخل الثقافات، يكتسب هذا الحوار الرمزي أهمية متزايدة. كيف يمكن لمصر أن تحقق الانفتاح العالمي مع الحفاظ على هويتها الأصيلة؟ قد يكمن الحل في دمج حكمتيهما:
أن نأخذ من طه حسين شجاعة الانفتاح على المعرفة العالمية، والإيمان بقدرة العقل على التحرر. وأن نأخذ من جمال حمدان حكمة التوازن واحترام الجذر الجغرافي الذي يجعل من مصر كيانا فريدا.
فالهوية ليست اصطفافا أيديولوجيا بين بحرٍ ويابسة، ولا بين شرقٍ وغرب، بل هي قدرة مصر الأزلية على أن تكون الجسر الذي يصل بين كل هذه العوالم، محتفظة بقلبها النابض على ضفاف نيلها الأبدي.


