ثقافة وفنون

دراسة نقدية للنص النثري -الوداع الأخير- للكاتبة المصرية هدى حجاجي 

مشغل الصوت

بقلم الدكتور حمزة علاوي مسربت -كلية الفنون الجميلة – جامعة المستقبل.

“ثمة وداع لا يُقال فيه إلى اللقاء… بل يُقال فيه: ها أنت تتركني وحيدة، لأتعلم كيف أعيش ومعي موتان؛ موتك، وموتي المؤجَّل.”

لم يكن القبر هو ما أفزعها، بل الفراغ الذي تسرّب إلى قلبها منذ أن واروه التراب.

جلست على الأرض، تضم حفنة من تراب ما زال يحتفظ برائحته، كأنها تحاول أن تربط خيطًا أخيرًا بين الحياة والموت.

لم تكن وحدها. أحست بظلٍّ يقترب، لا يُرى بوضوح لكنه حاضر في كل ذرة من الهواء.

قال لها بصوت كأنه يخرج من داخلها:

“أنا الوداع… جئتُ لأبقى.”

ارتجفت. لم تكن بحاجة إلى أن تسأل من هو؛ فقد عرفته منذ اللحظة التي أُغلق فيها النعش.

همست بمرارة:

“سرقتَ مني يديه وصوته وضحكته… ماذا تركتَ لي؟”

ضحك الوداع ضحكة بلا روح، وأجاب:

“تركتُ لكِ الغياب… والغياب أبقى من الحضور. سأسكن كل زاوية في حياتك. سأجلس إلى جوارك عند المائدة، سأستلقي على الجانب الفارغ من السرير، وسأطل معكِ من كل نافذة على اللاشيء.”

صرخت فيه بجنون:

“لكنني سأظل أحبه حيًّا! الحب لا يموت!”

اقترب منها حتى شعرت أن أنفاسه تتغلغل في دمها وقال:

“الحب لا يموت، صحيح… لكنه يتحول إليّ. كل حبّ عظيم يولدني أنا: الوداع.”

سقطت دمعة حارقة على التراب، وأدركت أن الفقد ليس لحظة دفن، بل حياة كاملة تعاش على مائدة واحدة مع ضيفٍ أبدي لا يغادر.

منذ تلك الليلة، لم تعد تحرس قبره… بل أصبحت تحرس غيابه.

…………………..

يتضمن عنوان النص النثري(الوداع الاخير)للكاتبة المصرية =هدى حجاجي= عدة قراءة من الصور التي تتهاوى على مرآة النص التي تعكس ذات الكاتبة .يعبر أيضا عنوان النص عن مشهد درامي حزين. يأتي الوداع الاخير بعد عدة لقاءات،فضلا عن دلالة استرجاع الماضي وذكرياته.تبدأ الكاتبة نصها النثري بثنائية الوداع واللقاء:الرحيل والثبات. تنفي وتستدرك وتشعر بالوحدة التي تعبر عن حالة التمرد على الحب ،وغياب الصورة الحسية والمرئية،وبدأ مرحلة من التحول الزمني والمكاني في حياة تتكيف معها المفاهيم العقلية والذهنية. تستخدم الموت المؤجل للتعبير عن مشاعر الاحباط وخيبة الامل، اما موتان: تعبر عن غياب الشخص، وامل بلا روح. هناك فارق بين الوداع -وقتي، مؤقت و زائل واللقاء -بداية فترة جديدة حبلى بالامل، والتحول الزماني والمكاني ،استخدمتهما الكاتبة لتعزيز اسلوبها البلاغي وتنوع دلالتهما. تنوع ادوات النفي في النص لتعبر عن عالمها الوجودي ما بين الماضي والحاضر والمستقبل ،وهذا التنوع يضفي بعدا ديناميكيا للنص ما بين السرد للاحداث وحقيقتها والتنبؤ بها . توظف القبر للتعبير عن دلالة الموت ،والفراغ للتعبير عن الوحدة والتغرب،والتعبير عن مسألة الوجود، والشعور بالقلق الوجودي،وبالتالي فهو فراغ عاطفي،يستحضر فيه صورة الفقد،وملاذا لتفريغ المشاعر . تكرر لفظة التراب للتعبير عن دلالة الفناء،واتخاذه رمزا مرتبطا بالقبر والمواراة. ان احتفاظ التراب برائحته دلالة التجديد والحنين إلى الماضي بذكرياته الجميلة .يعكس النص صراعا نفسيا بين الحياة والموت.تستمر بالتنوع السياقي التركيبي بين النفي والاثبات لخلق ومضات تراجيدية تثير القارىء وتجذبه للنص النثري. تخلق الكاتبة ثنائية عملية ما بين الجسد والظل ،ما بين الوعي واللاوعي،هذه العلاقة تعبر عن رمزية الغياب والخوف، ووجود الذات ،كل هذه تعكس الصورة الشعرية التي تعبر عن الغياب والحضور،واستحضار تجارب حسية وعقلية لدى المتلقي .يخلق وجود الظل نوعا من التوتر الدرامي في النص. كل هذه التحولات الدلالية تعبر عن سيولة الحياة وتغيراتها. يحتوي النص النثري على الصورة الحسية- احست ،وتشتت الرؤية البصرية- لايرى، وحضور الرؤية الذهنية- حاضر ،وهذا ما يساعد على خلق جو فني، وتحقيق متعة للمتلقي ،والابتعاد عن الكلام المباشر. تستخدم الكاتبة الحوار السردي الذي يخفف الملل عند المتلقي،وبشكل عاطفي يعبر عن حالة من الصراع الفكري للشخصيةالحوارية.تستخدم أسلوب الحصر في الكلام ، وهو نوع من الحوار يفكك رتابة القول ويكشف عن المشاعر الداخلية للكاتبة ؛ فهو حوار بين الكلام المباشر – المتحدث ، وكلام غير مباشر- المستمع،هذا الحوار بين الغائب والحاضر بين الحلم/ الصورة الايحائية ، والتمني، بين الصوت المبحوح الصامت ، وبين الاهتزازات الحسية الجسدية ،انه الرعب الروحي والمادي.خلقت الكاتبة صورة خيالية من الوداع – الميت،كي تمنح المشهد النثري دوامة زمنية من العود الأبدي، وتخرج النص من وجع الحزن بالتأملات الوردية،واستمرار الحوار بين الحياة والموت- الظل.تستخدم النعش للدلالة عن الموت ؛ وهذا ما يعزز النص بالتنوع الرمزي ما بين الظل، والنعش والوداع ،لتظهر المعاناة والصراعات النفسية مع الذات وهي تعيش بين الأيحاء والخيال ،بين الوعي واللاوعي .هنا بدأ الصراع بين العالم المادي – ارتجفت،والعالم الروحي المضمر في النعش.

خلقت الكاتبة تحولات في الحوار بين المتكلم – الغائب، صورة الميت، والمخاطب – المرأة المحورية.تستخدم الكاتبة العلامات التنقطية لاضاءة النص وجذب رؤية المتلقي و البحث عن المكنون خلفها. تعبر الهمس بمرارة عن طاقة سلبية خفية حزينة .تحاور الظل وتسائلة بحزن وبحسرة تمطر حياتها ،بعد ان غيب الظل – الموت -فقيدها وسلب صوته وفرحه .تمنح النص علامات انزياحية وتترك الاكتمال للمتلقي،فهذه الانزياحات تمثل نقطة توقف للقاريء،كي يستعيد قراءة النص للعثور على مفاتيح الازاحة .تعطي النص طابع تراجيدي بوجود زمني ،وغياب يعبر عن الحضور المادي والغياب الروحي ،وظهوره بطابع انسني من خلال ايقاع الجناس اللفظي -ضحك وضحكة، مع تواجد زمني ومكاني خالي من الروح.تستخدم اللاشيء كناية عن الفناء، واليأس، واللاعودة.تكرر صوت -السين- المهموس والصفيري، الذي يعبر عن الابعاد النفسية والايحائية في النص، لانه صوته رخو يسهم في اثارة مشاعر الحزن . تكرر صوت التاء لانه يحمل دلالة الحزن والتوتر الذاتي، فضلا عن منح النص ايقاعا موسيقيا . تؤدي الالفاظ /ضحك. صرخت، دور التضاد الذي يعمل على اثارة المتلقي ويحرك الدلالات داخل النص،ويعمق الفارق بين الحياة والموت، انه المشهد الدرامي الذي يثير مشاعر المتلقي، ويعمل على خلق المفارقة الادبية في النص.جاء تكرار -قال -في النص لديمومة الحوار الدرامي والتوكيد على فكرة النص وتوطيد عناصرة الصورية.تستخدم لفظة الوداع كناية عن الراحل المتيمة به:أي رحيل الروح للجسد. تحدث الكاتبة تحولا من المادي -القبر-الى الروحي غياب الميت،الذي يصبح جزءا من وجدانها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى