ثقافة وفنون

قراءة نقدية في قصيدة “ذكرى في صبح اليوم الجمعة” للشاعر محمد خالد الخضر

مشغل الصوت

بقلم: علي عبد الوهاب الجاسم

 

قبل أن نبدأ في قراءة التحليل، دعونا ننصت أولًا إلى القصيدة التي كُتبت في لحظة رثاء، حيث امتزج الحزن بالحب، والغياب بالذاكرة.

ذكرى في صبح اليوم الجمعة

استيقظت لأذهب إلى وكالة الأنباء سانا فتدفقت ذكرى أخي الراحل حسين

وكانت هذه الأبيات .

……

صحوت الصبح كي أمضي لسانا

وجدت عواطفي تترى حزانى

ذكرتك يا أخي فانهار دمعي

كما أحسست في الذكرى أبانا

ورثنا يا حسين كثير طيب

وعلمنا المروءة والحنانا

ذكرتك يا أخي فالروح ضاقت

وما وجدت على الدنيا أمانا

لماذا وحدنا ذقنا التنائي؟!

وهذا البين يا غالي اصطفانا

وطيفك صار يأتيني صباحا

وقبرك في مواجعنا رآنا

ورحت أرتب الأوراق صبحا

لتصحبني كأحزاني لسانا

في هذه القصيدة، يفتح الشاعر الكبير محمد خالد الخضر نافذة صباحية على الحنين، حيث تتداخل الذكرى الشخصية مع الوجدان الجمعي، ويصبح الفقدُ أخاً للقصيدة، والقصيدةُ مرآةً للفقد. إنها ليست مجرد أبيات تبكي على الموت، بل هي شهادة على كيفية استمرار الحياة رغم الألم، وكيف أن الذكرى تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجود اليومي.

البنية الشعورية والرحلة الداخلية

القصيدة تنتمي إلى شعر الرثاء، لكنها تتجاوز البكاء على الغائب إلى استحضار القيم التي تركها، والروابط التي لا تنفصم رغم الموت. يبدأ الشاعر بيومية بسيطة: “صحوت الصبح كي أمضي لسانا”، ثم ينقلب هذا الفعل العادي إلى لحظة وجدانية عاصفة، حين “تترى حزانى” العواطف، وتنهار الدموع. هذا التناقض بين الخارج (الذهاب إلى العمل) والداخل (اقتحام الذكرى) هو ما يولد الصراع الشعوري الأساسي.

القصيدة لا ترثي حسين فقط، بل ترثي الأب، والمروءة، والأمان، وتطرح سؤالاً وجودياً: “لماذا وحدنا ذقنا التنائي؟!”، في إشارة إلى شعور بالاصطفاء في الألم، وكأن الحزن اختارهم دون غيرهم. وهذا يُظهر أن الشاعر لا يرى في أخيه مجرد شخص فقده، بل يرى فيه إرثاً من القيم والمبادئ التي أصبحت جزءاً من شخصيته.

البناء الفني والدلالة

١ * اللغة: تتسم بالبساطة الممزوجة بالعمق، حيث لا يغرق الشاعر في الرمزية، بل يترك للصدق أن يكون هو الرمز.

٢ * الإيقاع: القصيدة مبنية على بحر الوافر، وهو اختيار موفق جداً. فالإيقاع الرصين والهادئ لهذا البحر يمنح الأبيات حالة من الشجن والعمق، ويتيح للكلمات أن تتردد في النفس وتستقر في القلب.

٣ * التكرار الفني: تكرار عبارة “ذكرتك يا أخي” يمنح القصيدة نبضاً داخلياً، ويُعيد القارئ إلى مركز الشعور كلما ابتعد، فيشبه النبضة المتكررة التي يعاود فيها القلب تذكير نفسه بالألم.

٤ * الصور الفنية: “طيفك صار يأتيني صباحا” هو حضور يومي يرافق الشاعر في مهامه، ويُعيد تشكيل حزنه. أما صورة “قبرك في مواجعنا رآنا” فهي صورة مقلوبة، حيث يتم منح الجماد (القبر) صفة الإبصار، ما يجعل القبر ليس مجرد مكان للراحة الأبدية، بل شاهداً حياً على عذابات الشاعر، لتجسد كيف أن الموت لا يقطع الصلة، بل يُعيد تشكيلها.

القصيدة كمقاومة للغياب

القصيدة يمكن قراءتها أيضًا كمرآة لفكرة “الكتابة في وجه الغياب”. في البيت الأخير “ورحت أرتب الأوراق صبحا / لتصحبني كأحزاني لسانا”، يظهر التأويل العميق؛ فالشاعر لا يذهب إلى العمل ببساطة، بل يذهب حاملاً أحزانه. الأوراق التي يرتبها ليست مجرد أوراق للعمل، بل هي أوراق لكتابة الحزن وتحويله إلى نص. وكأن الكتابة في هذا الصباح هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الشاعر أن يتعامل مع آلامه.

وفي الختام، تُظهر قصيدة “ذكرى في صبح اليوم الجمعة” أن الشعر الحقيقي لا يُكتب في أوقات الفرح فقط، بل يولد من رحم الألم. إنها شهادة على أن الذكرى ليست عبئاً، بل هي جزء من هويتنا، وأن الكتابة هي أفضل وسيلة لمقاومة الغياب. فالشاعر لم يدفن أخاه، بل أضافه إلى قصيدته، ليظل حياً في حروفها ومعانيها، وليبقى الشعر شاهداً على أن الحب أقوى من الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى