اسلاميات وعقائدمقالات

مناظرة بين عالم وشيخ: العقل والنقل في ميزان الأمة

بقلم: حميدو حامد صقر

عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية – باحث في الفكر السياسي والاجتماعي

المقدمة:

منذ قرون طويلة، يشغل الفكر العربي الإسلامي سؤالٌ محوري:

هل العقل مقدَّم على النقل؟ أم أن النقل، أي النصوص المقدسة، هو المرجعية التي ينبغي ألا تُناقش؟

وقد دار هذا السؤال في المجالس العلمية، وأروقة الفقهاء، وداخل قاعات الفلسفة، فخرج لنا جيلٌ يرى أن العقل مفتاح النهضة، وآخر يرى أن النقل هو صمّام الأمان من التيه والضلال.

في هذا المقال، نعرض مناظرة فكرية تخيلية بين عالم يمثل التيار العلمي التجريبي، وشيخ يمثل التيار الديني التقليدي، في محاولة لإحياء النقاش دون صدام، وللسير في طريق الجمع بين العقل والإيمان.

مدخل إلى طبيعة الخلاف:

يبدأ الخلاف من سؤال بسيط ظاهريًّا، عميق أثره:

كيف نفهم العالم؟ بالنصوص المقدسة أم بالملاحظة والتجريب؟

لكن سرعان ما يتفرع السؤال إلى قضايا شائكة:

هل يجب إعادة تأويل النصوص حين تتعارض مع العلم الحديث؟

وهل “العقل البشري” مؤتمنٌ على التأويل والتفسير؟

أم أن حدود العقل يجب أن تُقيد بما ورد في الكتاب والسنة؟

إنها معركة فكرية بين “السلطة المعرفية الدينية” و”السلطة العقلية الحديثة”، وبين من يرى الإيمان تسليماً، ومن يراه انطلاقاً.

فصول المناظرة:

الفصل الأول: الشيخ يتكلم

يبدأ الشيخ عبد الرحمن حديثه بثقة ووقار:

“أيها الحضور، نحن أمةٌ جاءها الوحي، وأنزل عليها الكتاب. والنص هو الحقيقة الكبرى، لأنه من الله. والعقل، مهما بلغ، يبقى إنسانيًّا، ناقصًا، محكومًا بالزمن والمكان. فإن تعارض العقل والنقل، فإننا نقدّم ما ثبت من النص على ما اهتدى إليه العقل، لأن الله أعلم بمصالح خلقه.”

ويستشهد الشيخ بآيات قرآنية وأحاديث تدعو إلى التسليم، مثل قوله تعالى:

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]

ويؤكد أن العلم الحقيقي هو ما لا يتصادم مع الشريعة، وأن “العقل إذا خالف النقل الصريح، فإما أنه عقل فاسد، أو أن النص لم يُفهم كما ينبغي.”

الفصل الثاني: العالم يرد

يرد الدكتور فؤاد، العالم الفيزيائي المتخصص في فلسفة العلوم:

“يا شيخنا الكريم، نحن لا ننكر قدسية النص، لكننا نسأل: من الذي يفسّر النص؟ إنه الإنسان، بعقله، وبيئته، وظروفه. فكيف يكون النقل مطلقًا إذا كان فهمه نسبيًّا؟”

ويضيف:

“العقل ليس عدوًا للوحي، بل شريكه. فالعقل هو الأداة التي نزل الوحي ليخاطبها. ومن هنا، نحن لا نرفض النص، بل نطالب بقراءته من جديد، بعقلٍ معاصر، وفهمٍ منفتح.”

ويستشهد بقول الإمام أبو حنيفة:

“العقل قبل الحديث، فإن خالفه، تُرِك الحديث.”

كما يذكر كيف أن ابن رشد دعا في “فصل المقال” إلى ضرورة التأويل العقلي للنصوص إن تعارضت مع البراهين القطعية.

صدام أم تكامل؟

في عمق هذا الحوار، لا يمكن أن نقول إن أحد الطرفين مخطئ تمامًا.

فالشيخ يحمي قدسية النص من التلاعب، ويحذر من تسييس العقل لصالح الأهواء.

أما العالم، فيحمي الحرية الفكرية، ويطالب بكسر قيود التقليد التي عطلت مسيرة العقل في الأمة.

ولكن يبقى السؤال:

هل يمكن أن نعيد ترتيب العلاقة بين العقل والنقل؟ بحيث لا يُقصى أحدهما لصالح الآخر؟

نماذج من التاريخ الإسلامي:

لقد عرف تاريخنا الإسلامي عصورًا ذهبية التقت فيها المدارس العقلية والدينية:

في عهد المأمون العباسي، تأسست دار الحكمة، وازدهر الترجمة والمنطق والرياضيات جنبًا إلى جنب مع علوم القرآن.

الفارابي وابن سينا وابن رشد، جميعهم علماء عقل وفلاسفة، لم يُقصوا الدين بل سعوا لتأويله.

فما الذي تغيّر؟

تغيّر المناخ الفكري، وتحول الدين إلى مؤسسة جامدة أحيانًا، وتحول العقل إلى خطر في نظر البعض.

موقف الفكر الحديث:

في عصرنا هذا، تعود مناقشة هذا الصراع من جديد:

هناك من يرى أن ما سمّاه السابقون بـ”الإسرائيليات” و”القياس الضعيف” يجب أن يُستبدل بنقد علمي صارم.

وهناك من يرى أن العلوم التجريبية المعاصرة، في الفلك والفيزياء والطب، لا تتعارض مع الدين، بل يمكن أن تُفَسِّر المعجزات تفسيرًا عقلانيًّا جديدًا.

الخلاصة:

إن الحوار بين العالم والشيخ ليس صراعًا بين مؤمن وملحد، بل بين قراءتين للحقيقة:

قراءة ترى أن النص هو الأصل، والعقل خادمٌ له.

وقراءة ترى أن العقل هو الأداة، والنص بحاجة إلى تأويل مستمر ليبقى حيًّا.

والمطلوب اليوم ليس الانتصار لطرف، بل بناء جسر فكري بين الطرفين، حتى لا نسقط مرة أخرى بين مطرقة الجمود وسندان الفوضى.

حميدو حامد صقر

عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

باحث في الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى