غير مصنف

قرار الوزير.. وخرافة الأرقام: هل يُقاس الإيمان بدرجات الغش؟

مشغل الصوت

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير 

في البرلمان، قد تبرق في الأفق قرارات تبدو للوهلة الأولى سديدة، ولكنها في العمق تخفي وهماً كبيراً. هكذا كان المشهد حين وقف وزير التربية والتعليم المصري ليُعلن، بجدية تامة، أن نسبة النجاح في مادة الدين لن تقل عن 70%. ظن الرجل، وربما غيره الكثيرون، أن هذا القرار سيُعيد البوصلة للأجيال الجديدة نحو القيم والمبادئ الأصيلة. بيد أن هذا التصريح، وإن فاضت منه نية طيبة، يكشف عن فهم قاصر لطبيعة الإنسان، ولمعنى الأخلاق الحقيقي، ولجوهر التربية السليمة.
إن القيم ليست أرقامًا تُحسب في دفاتر العلامات، ولا مفاهيم تُحشر في عقول الطلاب ليُفرغوها في ورقة امتحان. الدين، بكل ما يحمله من سمو ورفعة، ليس اختبارًا يُصاغ على عجل، بل هو سلوك يتجسّد في أدق تفاصيل حياتنا: في الشارع المزدحم، في أروقة المدرسة، في دفء البيت، بل وفي تلك اللحظة الحاسمة التي يُواجه فيها المرء إغراء الرشوة، أو رغبة الغش، أو نية التزوير.
كم من طالبٍ تبارى في مادة “الدين” وحصد أعلى الدرجات، ثم لم يتورع لحظة عن الغش في ذات الامتحان؟! وكم من خريجٍ تخرج من صروح العلم الديني، امتلأ لسانه بفصيح النصوص، بينما جوفه خلا من الصدق، ويده لم تعرف طريق الأمانة، بل مدت لتأكل المال الحرام؟! إنها حقيقةٌ قاسيةٌ قد تُصدم بها بعض النفوس: الأخلاق ليست نبتةً تنمو في حقل المناهج الدراسية، بل هي ثمرة يانعة لمجتمعٍ عادلٍ، لبيتٍ مُستقيم، لمدرسةٍ أمينة، ولمؤسساتٍ نُظفت من دنس الفساد.
إن القيم لا تُلقّن كدرسٍ جامد، بل تُكتسب بالتجربة الحية وتُروى بقصص القدوة الصادقة. عندما يقف المعلم أمام طلابه ويكذب، وعندما يزوّر المسؤول في أوراقه، وحين يرى الطفل أباه يشتري شهادة مزورة، كيف لنا أن نتوقع أن تُؤتي “مادة الدين” ثمارها المرجوّة؟! أي تربيةٍ هذه التي تُقيم الخُلق على أعمدة الدرجات المتهاوية، بينما الفساد والغش ينهشان ما تبقى من ضمير تربوي؟! أي منطقٍ هذا الذي يقودنا للاعتقاد بأن “زيادة نسبة النجاح في مادة الدين ” سيُشعل في الطالب نور الإيمان، بينما لم تستطع التربية برمتها أن تصنع منه إنسانًا شريفًا يُعول عليه؟!
إننا لا نحتاج إلى قرارات شكلية تزيد من أعباء الطلاب والمناهج، بل نحن في أمسّ الحاجة إلى ثورة وعي شاملة. إن الدول التي تُعرف بالانضباط والنزاهة والاحترام لم تبلغ هذا الرقي لأنها فرضت على أبنائها امتحانًا في مادة “الأخلاق”. بل وصلوا إلى ما وصلوا إليه لأنهم رسّخوا منظومة متكاملة من القيم، عمادها العدالة، القدوة الحسنة، المحاسبة الصارمة، والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع.
لنتأمل بعض النماذج المشرقة من أصقاع العالم، حيث تُبنى الأخلاق لا على أسس الدرجات، بل على دعائم راسخة من الفهم والعمل:
في فنلندا، تلك الدولة التي تُضرب بها الأمثال في جودة التعليم، لا يُثقلون الطفل بالمناهج المعقدة، بل يُغمرونه بالثقة. يُوضع المعلم في مصاف الأنبياء، ويُقدّر تقديراً يليق بدوره المحوري. والمدرسة هناك ليست مجرد قاعة لتلقين المعلومات، بل هي ساحةٌ تتنفس فيها القيم، تنمو باللعب الحر، بالاحترام المتبادل، وبحرية التعبير.
في اليابان، يبدأ الأطفال يومهم الدراسي بتنظيف مدرستهم، لا لأن مادة “الدين” تُملي عليهم ذلك، بل لأنهم تعلّموا منذ نعومة أظفارهم أن احترام المكان والناس واجبٌ يومي، سلوكٌ متأصلٌ في وجدانهم.
أما في النمسا، حيث أقيم، تُبنى التربية على أسس الاحترام المتبادل بين المعلم والتلميذ. تُغرس القيم من خلال العمل الجماعي الذي يُعزز روح الفريق، والانضباط الذاتي الذي يُنمّي المسؤولية، وتحفيز الحس الإنساني الذي يُعلي من شأن التعاون والتراحم. كل ذلك لا يتم عبر العقوبات الزاجرة، بل عبر إشراك الطفل في صناعة قراراته وتحمّل مسؤوليتها. هناك، الأخلاق ليست مجرد شعارٍ نظري، بل ممارسة يومية تنمو وتترعرع في بيئة ترفض الغش وتُقدّس الصدق وتُعلي من قيم النزاهة.
أما نحن، فما زلنا نظن أن الدين – هذا البناء الروحي العميق الذي يشمل جميع جوانب الحياة – يمكن أن يتحول إلى “مسألة اختيار من متعدد”، تُحلّ بسرعة، وتُنسى بسرعة، ويبقى أثرها محدوداً في السلوك.
إننا، وببساطة شديدة ووضوح أشد، إذا أردنا حقاً أن نغرس القيم النبيلة في نفوس أجيالنا، فإن الأمر يتطلب منا تحولاً جذرياً في نظرتنا وممارساتنا. يجب أن نُدرك أن بناء الأخلاق هو عملية شاملة ومتكاملة، تُشارك فيها جميع مؤسسات المجتمع وأفراده، وليست مسؤولية مادة دراسية بعينها. لذا، فإن علينا أن نُبادر إلى:
– زرع الثقة: يجب أن تُبنى العلاقة بين الطالب ومعلمه، وبين الأب وابنه، وبين المواطن ومؤسسات دولته على أساس الثقة المطلقة. عندما يُشعر الطفل بالثقة فيمن حوله، وعندما يرى أن الثقة هي أساس التعاملات، سينشأ على هذا المبدأ.
– تطهير المؤسسات: لا يمكن أن نتحدث عن قيم النزاهة والأمانة بينما تتفشى مظاهر الفساد في بعض مؤسساتنا. يجب أن تُطهر جميع المؤسسات من أي شوائب فساد، وأن تُصبح نموذجاً للشفافية والمساءلة.
– وقف الغش ومحاربته: يجب أن نُعلن حرباً لا هوادة فيها على ظاهرة الغش بكل أشكالها، سواء في المدارس أو الجامعات أو في الحياة العامة. فالغش يفتك بالضمير ويُفسد المجتمع، ويُرسخ فكرة أن النجاح يمكن أن يأتي بطرق ملتوية.
– تكريم المعلم: المعلم هو العمود الفقري للعملية التربوية، وهو القدوة الأولى للطلاب. يجب أن يُكرم المعلم مادياً ومعنوياً، وأن يُعطى المكانة التي يستحقها في المجتمع، ليعود دوره الريادي في بناء الأجيال.
– محاربة الفساد بكل أشكاله: الفساد هو آفة تُدمر المجتمعات وتُقوض الأخلاق. يجب أن تُوضع آليات صارمة لمكافحة الفساد، وأن يُحاسب كل فاسد بلا استثناء، ليرى الجميع أن العدل يسود.
– جعل القانون فوق الجميع: لا يمكن لأي مجتمع أن يرتقي ما لم يكن القانون هو الحاكم الأوحد، يطبق على الجميع دون تمييز أو محاباة. فالعدالة هي أساس الملك، وهي البيئة الخصبة التي تنمو فيها القيم النبيلة.
وفي النهاية، أيها القارئ الكريم ، يبقى السؤال معلقًا في فضاء الوعي: إذا ظل الحال على ما هو عليه، واكتفينا بقرارات شكلية كرفع نسبة النجاح في مادة الدين، دون أن تُصاحبها ثورة حقيقية في القيم والممارسات، فهل نكون قد أصلحنا شيئًا؟ أم أننا بذلك نفتح بابًا آخر من أبواب الغش، هذه المرة في قدس الأقداس، في جوهر الإيمان ذاته؟
إن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بنسبة نجاح في امتحان ورقي، ولا يُصقل بدرجة تُضاف إلى المجموع. إنه نورٌ يُضيء البصيرة، ووازعٌ يُقوم السلوك، وعهدٌ يربط الإنسان بخالقه وبمجتمعه. عندما نُجبر الطالب على “النجاح” في الدين بهذه الطريقة، في ظل بيئةٍ تعجّ بالغش والفساد وانعدام القدوة، فإننا لا نُرسّخ فيه قيم الإيمان، بل قد نُلقّنه درسًا خطيرًا: أن الدين أيضًا يمكن أن يكون أداةً للتحايل، ومجالًا للمجاراة الشكلية، وممرًا للحصول على درجة لا تعكس حقيقة ما في الروح.
دعونا لا نُحوّل الدين، الذي هو أساس الأخلاق ومنبع القيم، إلى مجرد مادةٍ تُزوّر درجاتها، أو تُغشّ أسئلتها. فذلك لن يُفسد التعليم وحسب، بل سيمتد فساده ليُلوّث أقدس ما في الوجود، ويُفقد الأجيال الناشئة ثقتهم في المبادئ التي تُروى لهم. إن إصلاح القلوب وبناء القيم يبدأ من تطهير النفوس والمجتمعات، لا من مجرد رفع عتبة النجاح في ورقة امتحان. لنُحافظ على قدسية الدين، ولنجعله منارةً حقيقيةً تُضيء دروب الأجيال، لا سلعةً تُقاس بالأرقام وتُلوّث بالغش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى