ثقافة وفنون

دراسة نقدية منهجية لقصيدة “الأرض انفلات لفوضى التشابه” – للشاعر سليمان يوسف

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

في ضوء المناهج البنيوية، التفكيكية، والأسلوبية.
منذ العنوان تتبدى أهم سمات النص الحداثي المنفتح على التعدد والتأويل:
“الأرض انفلات لفوضى التشابه”
جملة اسمية مشحونة بالانزياح، تنطوي على توتر دلالي بين النظام (الأرض بوصفها الثبات والوجود) وبين الفوضى (الانفلات والتشابه الذي يذيب الفوارق).
هنا يظهر الاشتغال البنيوي الأول: تفكك العلاقة المعتادة بين الدال والمدلول، فالأرض لم تعد مرجعية للاستقرار، بل ساحة سيولة وتكرار وتماثل بلا فروق.
ففي مجال القراءة البنيوية ندرك أهمية معمار النص وتشكله. كون النص يتوزع على مشاهد أو مقاطع تعتمد تقنية التقطيع السردي الشعري، بلا حبكة زمنية أو سردية تقليدية، بل وفق بنية تشبه الحلم أو الهذيان الشعوري، مما يتوافق مع مفاهيم “رولان بارت” حول “كتابة اللذة” النصية: ففي غياب المركز
لا يوجد “حدث” أو “قصة”، بل تداعيات حسية (الريح، العاشق، المرأة، المليكة، النهر) حيث تتكرر بصيغ متعدّدة، تدور حول غياب الأصل والثبات. من حيث المعجم النصي ، نجد أنّ المعجم يميل إلى الاضطراب المفهومي:
(الريح – الخديعة – الخوف – العشق – الغياب – النار – الهشيم – الحنين – الحناء – العذاري – الجنازات)،
وكلها كلمات تعكس فقدان اليقين والمرجعية.
لذا نلحظ وجود علاقات التضاد في النص كون
النص مشبع بثنائيات متقابلة (الريح/الشبابيك، العاشق/الغياب، المرأة/الخديعة، الأرض/الفوضى)، لكنها لا تنتهي إلى حسم، بل إلى تآكل الحدود بين الأشياء.
كل ذلك يدفعنا لإعادة قراءة النص من جديد ساعين لتفكيكية محاولين قراءة لعبة الحضور والغياب اعتماداً على منهج “جاك دريدا”، يظهر أن النص يقوض ذاته من الداخل: حضور الغياب:
الغياب ليس نقصاً، بل جوهر النص: “ولو جف عليه وجه الغياب”،
كأن الحضور نفسه مستحيل؛ لأن العاشق ينتظر اللازمن.
الهوية المراوغة للأشياء:
الريح “لا تعتذر”، المرأة “لا تعتذر”، النهر “شرب روح العذارى”…
كل عناصر العالم فقدت يقينها الوظيفي، وتتحرك في مدار “اللاحسم”.
تفكك “الذات الشاعرة”:
المتكلم نفسه غير ممسك بوضوحه ، يقول : “لعلي انكسرت على وجه…”
“أنا الذي أكتبك…”
إنه “أنا” متشظٍّ بين العشق والمنفى، الكتابة والغياب، المرأة واللا امرأة.
غياب المرجع الواقعي:
لا توجد “امرأة” محددة، ولا “عاشق” معين، بل صور توليدية (كما يقول لاكان) تدور حول الرغبة المؤجلة أبداً.
من جهة القراءة الأسلوبية نجد أنّ للنص صوره الخاصة ولغتة المعبّرة.
النص يمارس لعبة أسلوبية دقيقة، يمكن تتبعها كما يلي:
1. الجملة الشعرية المنكسرة:
يغلب على النص الجملة الناقصة أو المعلقة:
“لم أنتبه؟ هذا فضاء امرأة…”
“كأنها تنسج رداء الخلق…”
كأن اللغة عاجزة عن القبض الكامل على المعنى، مما يعزز البعد التفكيكي.
2. الصور المركبة والانزياحية:
▪ “النار تهزم هشيم الأرض”
▪ “النهر شرب روح العذارى”
▪ “مشت في جنازات تشفع لي”
صور تتداخل فيها الحواس والمجالات الدلالية، فتخلق مجازات مفتوحة ومتعددة التأويل.
3. تكرار مفردات الموت/الغياب/الخديعة:
معجم الحزن والفقد يهيمن على الجو العام، مع طغيان ألفاظ الفناء (الموت – الجنازات – هشيم – الغياب).
4. الإيقاع الداخلي:
على الرغم من غياب الوزن التقليدي، هناك تكرار لفظي وصوتي يخلق موسيقى داخلية خافتة، من مثل:
(لعلي… لثغ… الحناء… الحنين… الخديعة… الخيل… الخوف…).

رابعاً: الأبعاد الفكرية والفنية للنص
الرؤية الوجودية:
النص ليس فقط شكوى عاشق، بل تأمل وجودي في معنى الحياة والموت والهوية والكتابة، فالكتابة هنا بديل عن الحضور المستحيل.
المرأة/الحلم:
المرأة في النص ليست شخصية واقعية، بل صورة حلمية غامضة تتراوح بين الحبيبة، المليكة، الكاهنة، الروح… ما يجعلها رمزاً للكينونة المفقودة.
الزمن/المنفى:
الشاعر لا يعيش الحاضر بل زمن “كاد يقتلني”، أي أن الزمن ذاته ملوث بالفقد، والمكان “منفى”، والكتابة محاولة لخلق وطن بديل.
خاتمة
في ضوء هذه المقاربات، يتبدى أن القصيدة ليست قصيدة حب فقط، بل قصيدة وجودية كبرى تعبر عن قلق الكائن المعاصر، المغترب عن زمانه ومكانه، الباحث عن معنى في عالم فقد يقينه.
إنجماليات النص تنبع من انفتاحه على تعدد القراءات، ومن انزياح لغته، ومن كسره المستمر للتوقع، كما تتجلى قدرته في توليد الدلالة بلا نهاية، وفق رؤى التفكيك والبنيوية والأسلوبية الحديثة.
تظل هذه القصيدة مثالًا ناضجًا على شعرية “ما بعد الحداثة”، حيث يتقاطع الذاتي بالكوني، والغياب بالحضور، والمعنى باللا معنى، واللغة بالفراغ، بما يجعلها نصًا يستحق قراءات متعددة ومتجددة.
هكذا تمضي القصيدة متعثرة في شراك الفوضى، تحاول القبض على لحظة المعنى، لكنها لا تلبث أن تنفلت منه كما تنفلت الأرض ذاتها في انفلات “فوضى التشابه”. هنا، يغدو النص ذاته ساحة صراع بين الحضور والغياب، بين الممكن والمستحيل، بين العاشق الذي “لا يملك وقت انتظاره” وبين الريح التي “لا تعتذر عما فعلت”. والقصيدة إذ تنسج صورها من حطام الرغبة وخواء الانتظار، تظل مرتهنة لما يمكن تسميته “ميتافيزيقا التردد”، حيث كل صورة تولد من رحم ضدها، وكل معنى يتلاشى في ضباب احتماله.
إن هذه الكتابة، بما هي اشتغال على انكسار الذات وانزلاق المعنى وتناسل الصور، لا تهب القارئ أرضاً صلبة يقف عليها، بل تدفعه إلى غياهب الريبة، إلى تلك المساحة المائعة حيث تفقد الكلمات دلالتها الثابتة، وتتماهى الرؤى حتى يتعذر الفصل بين ما هو شغف وما هو احتضار، بين الحبيبة والمليكة، بين الخوف والفتنة، بين العرش والحناء، بين العشق والموت.
ولعل هذا ما يجعل القصيدة – على ما فيها من صور فاتنة – تعاني من انفلات الوحدة الموضوعية، فكل مفصل فيها يتجه إلى غايته الخاصة، دون أن يتعاضد مع سواه لصنع نسيج متماسك أو دلالة نهائية تستقر في الذهن. إنها قصيدة الأثر لا قصيدة البنية؛ قصيدة اللحظة المفتوحة لا القصيدة المحكمة ذات الخاتمة المقفلة.
ومن هنا، فإن انفلات المعنى في هذه القصيدة ليس عيباً بنيوياً فحسب، بل خيار جمالي واعٍ – أو شبه واعٍ – بكون الأرض ذاتها لم تعد مرساة يقينية، بل “انفلات لفوضى التشابه”، حيث تذوب الحدود بين المرأة والمكان، بين العاشق والنهر، بين الريح والغياب، حتى يتلاشى المركز وتضيع القبلة، فلا يبقى سوى أثر لغوي يتردد كصدى في فضاء النص.
لكن السؤال الذي يظل معلقاً في هذه النهاية المفتوحة هو: هل يكفي هذا الأثر لإقناع القارئ بجدوى التبعثر وفتنة الفوضى؟ أم أن غياب البنية المحكمة ينذر بتحوّل القصيدة من فضاء جمالي خصب إلى عبث لغوي لا خلاص فيه؟ إنها، في النهاية، قصيدة تقف على حافة المعنى، كما يقف العاشق على نصف العمر… ينتظر.

نص القصيدة:

الأرض انفلات لفوضى التشابه) .
لاتعتذرُ الريحُ عما فعلتْ لاشبابيك نغلقها في النعاس ،لاتعتذرُ المرأةُ عن إرجاءِ موعدها..
لا يملكُ العاشق وقت انتظاره،هو نصف العمر،
ولو جفَّ عليه وجه الغياب.
لَعَلّي انكسرتُ على وجهٍ،تناسخ في الخجلْ،
رضعَ حليبَ أنسهِ في الجوار،وهذي النار تهزمُ هشيمَ الأرضِ،تدخلُ مناسكَ الخديعةِليلاً، وتجرُّ أنيابَ اللحظةِ،من زمن كادَ يقتلني،يولج حروفَ اللثغِ في حبر فجيعتهِ،وما عادَ للنطق صوت المكان.
عرشُ المليكة،نام على ذراعي ،فأزَّ فيَّ الخوف ،ولم أنتبهْ؟ ،هذا فضاء امرأة لكحلة عينيها؛كانتْ تشفُّ ُمُهَجَ الزنابقِ،هيَ في الحنّاءِ،سكب دهشة
كأنها تنسجُ رداءَ الخلقِ من حرير عرشها،وتعبر قلاع العشق،بلا حراسْ.
الأرضُ انفلاتُ لفوضى التشابهِ،في عدوى موتي.
فلمَ تجفلُ الخيلُ في المغيبْ،ولمَ يركب البوحُ ظهرَ صمتهِ،وهذا النهرُ شربَ روح العذارى،طاف على حزن النساءِ،فأيُّ الدروبِ نسيت ْ وردها،ومشت في جنازات،تشفعُ_لي_،وأنا الذي أكتبكِ ياامرأة،في شغاف قلبي،كأني أريد أن أوزع العشق لناحيتين،ولقلبين في المنفى…..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى