تفكيك اللغة: بين الفلسفة والوجدان بن المفكر نبيل طعمة والشاعر نزار قباني

مشغل الصوت
بقلم : علي عبد الوهاب الجاسم
” الكلمة كأداة فلسفية” (نبيل طعمة): مسؤولية الوعي
في رحاب شعر نبيل طعمة، تتجاوز اللغة وظيفتها التعبيرية المعتادة لترتقي إلى مستوى الأداة الفلسفية. إنها ليست معنية فقط بوصف المشاعر أو تسجيل التجارب الآنية، بل هي مكلفة بمهمة أعظم: تغيير مسار الوعي.
لقد أدرك طعمة أن أزمة الإنسان المعاصر ليست في نقص العاطفة، بل في غياب التفكير العميق والوعي الذاتي. لذا، جاءت لغته الشعرية مشحونة بثقل المفاهيم المجردة، بعيدة عن السرد القصصي والتفاصيل الحسية المباشرة. الكلمات عنده تزرع الأسئلة، وتستفز العقل، وتدعو إلى التأمل.
* الأمثلة المفتاحية والتحليل:
* “الإنسان يبحث عن ذاته بين أنقاض الحضارات، ليجد أن الحقيقة تسكن داخله.”
* التحليل: هنا نجد تكثيفاً فلسفياً لرحلة البحث الوجودي. “أنقاض الحضارات” ليست صورة عادية، بل هي استدعاء لتاريخ الفشل البشري. الحقيقة لا توجد في الخارج (الحضارات)، بل في الداخل (الذات). اللغة هنا مجردة تماماً، وتعتمد على ثنائية الداخل/الخارج، الحقيقة/الزيف.
* “الكلمة ليست صوتاً، بل هي فعلٌ يغير مسار الحياة.”
* التحليل: هذه المقولة تختزل فلسفة طعمة للغة. إنها ترفض المفهوم السلبي للكلمة (الصوت، الزخرفة) وتؤكد على مفهومها الإيجابي والفاعل (الفعل، التغيير). هذه النزعة الفاعلة تجعل من الشعر لديه مشروعاً لتغيير الواقع عبر تغيير الوعي.
* “حين يكتب الشاعر، فإنه يزرع بذوراً في الوعي، لا في الورق.”
* التحليل: هنا تتضح وظيفية الشعر: هدفها هو الإخصاب الفكري، لا الإمتاع الجمالي وحده. “الوعي” هو الأرض الحقيقية للقصيدة، وليس الصفحات البيضاء. هذا التركيز على “الوعي” يضع طعمة في مصاف المفكرين الذين يستخدمون الشعر لنقل الرؤى المعرفية.
إن لغة طعمة هي لغة التجريد البنّاء. إنه لا يخاطب القلب مباشرة، بل يخاطب العقل أولاً ليقود القلب. هذه اللغة تتطلب متلقياً مستعداً للمشاركة الفكرية والجهد التأويلي.
“الكلمة كبوح وجداني” (نزار قباني): الشعر مرآة الذات
على النقيض تماماً من لغة الفلسفة والتجريد عند طعمة، يقف شعر نزار قباني على قمة جبل اللغة العاطفية المباشرة والمحسوسة. لقد كان قباني رائداً في تحويل الشعر العربي من لغة الخطابة الفخمة إلى لغة الحوار والبوح اليومي، مركزاً جلّ اهتمامه على العلاقة بين الرجل والمرأة، ومشاعر الحب والمنفى والغربة الوجدانية.
* الأمثلة المفتاحية والتحليل:
* “أحبك جداً، وأعرف أني أعيش بمنفى.”
* التحليل: تتسم الجملة بالبساطة والوضوح العاطفي المفرط، وهو ما يعرف بـ “السهل الممتنع”. هنا، “أحبك” هي حجر الزاوية الذي تبنى عليه القصيدة، ويتحول “المنفى” من دلالة سياسية إلى دلالة وجدانية عميقة، مرتبطة بالشعور بالوحدة رغم وجود الآخر.
* “يا سيدي، كل ما في الأمر أني أنثى، وأنك رجل.”
* التحليل: هذه الجملة تضع القارئ مباشرة في صلب العلاقة الإنسانية بأبسط تعقيداتها: ثنائية الجنسين. لغة قباني هنا هي لغة الاعتراف والحوار. إنه يكسر الجدار بين الشاعر والقارئ، ويسمح للذات الفردية أن تتحدث دون مواربة.
* “إني خيرتُك فاختاري، ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري.”
* التحليل: الصورة الشعرية عند قباني حسية ودرامية. “الموت على الصدر” صورة جسدية عاطفية بامتياز. الكلمة هنا وظيفتها الإثارة الوجدانية، وتأكيد سلطة العاطفة على كل شيء آخر، مما يجعله شاعراً للذات الفردية وضميرها.
لغة قباني هي لغة التفاصيل الحسية والتشخيص. إنه يمنح الأفكار أجساداً، ويقرب المعاني الكبيرة إلى مستوى التجربة اليومية. المتلقي هنا يتميز بالانفعال والتعاطف، حيث يجد القارئ نفسه بسهولة في مرآة هذه الكلمات.
النتيجة:
إذا كان قباني قد استخدم اللغة لتحرير العاطفة العربية من قيودها الاجتماعية والسياسية، فإن طعمة يستخدمها لتحرير الفكر العربي من قيود السذاجة والسطحية. كلاهما رائد في مجاله؛ قباني في كونه صوتاً للحب والحرية الشخصية، وطعمة في كونه صوتاً للوعي والحرية الفلسفية.



