انطولوجيا الخراب… الكفاءة ونمذجة البناء / قراءة في قصص الهام عيسى

مشغل الصوت
لنطالع هذه القصص
على مائدة الجوع
على مائدة الجوع هلّلوا للنصر.
الجلاد سمح بمرور الطعام إلى بطون خاوية.
قهقهت الأشلاء، وارتفع الطوفان دمًا حتى الاختناق…
فُكَّ القيد.
فوق أكمام الركام
فوق أكمام الركام جلست.
عبرت الغمام، وسال من مسامات الأزمنة زُكومُ الحكايا المثخنة.
تئن الحروف، ويبتلع السكون ذهول اللحظة.
جمعت شتات التفاصيل، قطعت تذكرةً بلا محطة،
فخارطةُ التيه تمتد من الثُّبور إلى الويل.
على لوح الشتات
على لوح الشتات رسم غصنَ زيتونٍ وبياراتِ ليمون.
كان المكان غارقًا في الصمت، وعيناه مثقلتين بغيوم الكآبة.
تطاير لهاثه الساخن، فرسم بابًا ومفتاحًا،
ولفّ جسده بأمنيات العودة.
ثلاث وجوه لجرح واحد تنبثق من تربة الفقد الإنساني معيدة صياغة الألم ضمن بنية سردية مكثفة يتماهى فيها الخراب المادي مع الخراب الروحي حتى يغدو الإنسان شظية في مشهد كوني مثقل بالصمت والدم والحنين.
من مائدة الجوع التي تُكرّس انتصار الوهم على الجوع الحقيقي، إلى الركام الذي يحتضن ذاتًا تائهة تبحث عن معنى في زمن مهدوم، وصولًا إلى لوح الشتات الذي يحاول تحويل الذاكرة إلى وطنٍ مرسوم، نكتشف أن القاسم المشترك بين هذه النصوص هو محنة الكائن أمام سلطة الفقد.
الجوع هو جوع للعدالة والكرامة والركام ركام المعنى والشتات نفيٌ للهوية في فضاء مستلب الوجهة. هكذا تتجلى الثيمة المركزية في الانكسار الإنساني كونه قدرا وفي محاولة الذات أن تصنع من حطامها شكلًا من أشكال البقاء الرمزي.
نصوص تقيم في الكارثة محوّ اللغة إلى خيمةٍ ضد الضياع حيث يصبح القول آخر أشكال النجاة.
في هذه القصص تتجسد أنطولوجيا الخراب بوصفها جوهر الوجود الخراب فيها حالة كينونية تبتلع الكائن من الداخل وتعيد تشكيل العالم على صورة انكساره. فالجوع في القصة الأولى حرمان من المعنى نفسه، إذ تتحول المائدة إلى مسرح للخذلان، وتغدو الأجساد الخاوية مرآة لزيف النصر. أمّا الركام في القصة الثانية فهو الامتداد المادي لخرابٍ أعمق خراب اللغة والوعي، حيث تئنّ الحروف وتتآكل الأزمنة في دورانٍ لا ينتهي، فيتحول الصمت إلى كائنٍ متضخم يبتلع الذهول. وفي القصة الثالثة يتخذ الخراب شكلاً آخر، أكثر حزنًا وهدوءً، حين يكتشف المنفي أنّ الرسم هو آخر ما تبقّى له من العالم، وأنّ الوطن امسى أمنية تُلفّ بها الجثة لتقاوم العدم. تتوزّع مظاهر الخراب في هذه النصوص بين الخارج والداخل، بين ما يُرى وما يُحسّ، لكنها تلتقي عند فكرة واحدة وهي أنّ الإنسان في زمن الانهيار لا يملك سوى اللغة ليحيا بها، وأنّ الكتابة تصبح فعل ترميمٍ مؤقتٍ في وجه فوضى لا تُرمّم.
تخلق النصوص الخراب من داخل بنيتها، لتغدو لغتها ذاتها شاهدة على انهيار الوجود وعلى عجز الكلمة عن إنقاذ العالم إلا بوصفها محاولة يائسة للبقاء في أثره.
البناء الفني
تتنوع الأبنية الفنية لهذه القصص استجابة للتجريب تارة وأخرى لمتطلبات المغزى الذي يفرض شكل البناء.
فمثلا تقوم قصة (على مائدة الجوع) فنيا على التماثل الدائري بين / مائدة الجوع/ و/ فك القيد/، حيث تبدأ بحالة من الخضوع وتنتهي بانفجار، تاركة النهاية مفتوحة للتأويل. الإيقاع فيها متسارع، تحكمه حركة الأفعال (هلّلوا، سمح، تقهقه، يعلو، فكّ).
وكل فعل يرتفع بدرجة مأساوية حتى يبلغ الذروة في (فك القيد) أي لحظة الانفجار الدلالي
بينما تقوم قصة (فوق اكمام الركام) على نَفَس شعري كثيف، يعتمد الإيقاع الداخلي والتموج اللغوي أكثر من الحدث الخارجي.
هي نصّ يقوم على الصوت الداخلي للذات، لا على الصراع بين الشخصيات.
وهذه القصة تفتح النص على صورة متناقضة ازدهار ظاهر فوق خراب كامن.
وتذهب قصة (على لوح الشتات) فنيا على توازي الصورة والرغبة حيث الرسم فعل موازٍ للوجود.
اللوحة هنا تُجسّد الوطن الضائع، والمفتاح يصبح علامة الذاكرة. الفن يحلّ محل الواقع ليحافظ على بقاء الهوية.
البناء التقني والسردي
من حيث البناء التقني للقصة الأولى (على مائدة الجوع) نلاحظ أن التكثيف الدلالي يتمثل في كل جملة تشتمل على أكثر من مستوى رمزي حيث الجوع = الحرمان، المائدة = الخداع الجماعي، الجلاد = السلطة المتحكمة بالمعنى. ومن ناحية المفارقة المركزية نلمس الانتصار في ظل الجوع، وهو نصر زائف يتفكك لغويًا قبل أن يتفكك سرديًا.
تقنيا التحول اللحظي نجد انقلاب المشهد فجأة من الطاعة إلى الطوفان، في تقنية قريبة من (الانفجار الدرامي) الذي يميز القصة القصيرة جدًا.
وتأتي الصورة الحسية: الدم، القيد، الأشلاء – عناصر حسية تشحن اللغة بطاقة مأساوية عالية.
ومن حيث البناء السردي نجد الراوي هو راوٍ كليّ الرؤية، يتحدث بضمير الغائب الجمعي، ما يمنح النص بعدًا جماعيًا. والزمن: لحظة مكثفة تمثل ذروة حدث مأساوي.
المكان هو مائدة رمزية تختصر العالم في فضاء قمعي مغلق.
الخاتمة / فك القيد/ تفككٌ للمعنى ولا تمثل حلا للقصة – نهاية مفتوحة على احتمالات الموت والتحرر معًا.
وفيما يخص قصة ( فوق أكمام الركام) القصة الثانية نجد تقنيا أن الانزياح اللغوي متمثلا باستعمال تراكيب غير مألوفة (زكوم مثخنات الحكايا) يُعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والمعنى. والزمن غير خطي، يتداخل فيه الماضي والحاضر ضمن لحظة تيه. ثم تقنية اللاتحديد بحيث النص يوهم بالقول ويعتمد على فراغات المعنى ليشرك القارئ في تأويله.
ومن حيث البناء السردي الراوي هو ذات متأملة تتكلم من داخل التجربة، كأنها تسرد صمتها.
فيما الحدث رحلة داخلية بين الخراب والوعي بالخراب. والتحول يحدث في داخل الذات، حين تكتشف أن التيه مصير لا مرحلة تكشف عنها القصة
مكانيا الفضاء مجازي يرمز إلى الذاكرة والدمار.
والخاتمة انغلاق الدائرة في / خارطة تيه تمتد من الثبور إلى الويل/ يُظهر سقوط الأمل ودوام المعاناة.
ونلاحظ البناء التقني لقصة (على لوح الشتات) وهي القصة الثالثة متمثلا بالتصوير البصري فالقصة مرسومة أكثر منها مكتوبة – كل سطر يكوّن مشهدًا تشكيليًا (غصن الزيتون، بيارات الليمون، الباب، المفتاح). والاقتصاد اللغوي الهادئ هو على عكس القصتين السابقتين، تسود هنا نبرة حزن رصين لا انفجار فيه. وتتجلى رمزية الوطن والعودة بالتشكيل البصري يحمّل الأشياء بذاكرة جمعية
التحول فنيا يظهر بتحول الرسم من فعل جمالي إلى فعل وجودي مقاوم، فينقذ الذات من الفناء الرمزي.
في البناء السردي للقصة نجد الراوي عين خارجية تراقب الفعل بهدوء، دون تعليق.
والزمن: لحظة متجمدة في لوحة – زمن الرغبة في العودة. بينما المكان / لوح الشتات/ هو فضاء بديل للوطن المفقود.
يتمظهر التحول من فعل الرسم إلى فعل الالتفاف بالأمنيات، أي الانتقال من الخارج التشكيلي إلى الداخل الشعوري.
والخاتمة (ولف جسده بأمنيات العودة) تحوّل الذات إلى أيقونة للمقاومة الصامتة.
كل قصة من الثلاث تشكل ضلعًا في مثلث الوجود المنكسر فالأولى: فجيعة الجسد في مواجهة السلطة (الجوع). والثانية: فجيعة اللغة في مواجهة العدم (الركام). والثالثة: فجيعة الذاكرة في مواجهة النفي (الشتات).



