منوعات

ما بين التقدّم والضياع … تأملات في الإنسان المعاصر

مشغل الصوت

بقلم: هويدا حجاجي أحمد

 

> «كلُّ لقاءٍ حقيقيٍّ حدثٌ مُقدَّس، لأنه يوقظ فينا ما كان نائمًا.»

— مرسيا إلياد

 

 

 

كانت البداية بسؤالٍ طرحه المستشار الأديب بهاء المرّي:

 

> هل تقدَّمنا، أم أننا فقط فقدنا شيئًا عميقًا فينا؟

 

 

 

سؤال بسيط في ظاهره، لكنه يشبه مرآةً عميقة تُريك ملامح روحك أكثر مما تُريك العالم من حولك.

سؤالٌ يوقظ فينا ما خدرته الاعتيادية، ويعيدنا إلى جوهر الإنسان قبل أن تغمره موجات التقنية والمظاهر.

 

ثمّة جزءٌ من الإنسان لا يُرى،

يظلّ ساكنًا في أعماقه،

حتى يمرّ في حياته ضوءٌ يشبهه،

أو روحٌ تلمس ما خبا في داخله منذ زمن.

 

ذلك الجزء هو البوصلة التي تربطنا بذواتنا،

لكننا — في زحام العصر —

أضعناها بين ضجيج الحياة وسرعة الأيام،

حتى صار السؤال يلحّ فينا كنداءٍ قديم:

هل تقدَّمنا فعلًا، أم أننا فقط فقدنا شيئًا عميقًا فينا؟

 

لقد تمدّدنا خارجيًّا،

لكننا انكمشنا من الداخل.

صرنا نصل إلى كل مكانٍ بأصابعنا،

لكننا لا نصل إلى من نحبّ بقلوبنا.

كبرت المدن، وصغرت الأرواح،

واتّسعت المسافات بيننا رغم قرب الأجساد.

 

كأنّ التقدّم الذي ملأ الأرض صخبًا،

جرّدنا من القدرة على الإصغاء إلى نبضنا الهادئ،

إلى صوتنا الأول الذي كان يعرف طريقه بلا خرائط.

 

في زمن السرعة والسطوع،

فقدنا بوصلة العمق.

صرنا نحيا أكثر،

لكننا نعيش أقلّ.

نملك أكثر،

لكننا نحسّ أقلّ.

 

تغيّرت اللغة التي نتواصل بها،

وغاب الصدق خلف الرموز،

واختزلنا المشاعر في إشاراتٍ عابرة.

نتحدّث عن الحبّ كثيرًا،

لكننا ننسى أن الاهتمام هو الحبّ ذاته،

وأنّ غيابه يُطفئ ما لا تُحييه دواوين الشعر كلها.

 

ربما ما فقدناه لم يكن الزمن القديم،

بل أنفسنا القديمة:

التي كانت تعرف لذّة الانتظار،

وسحر التفاصيل الصغيرة،

وطمأنينة الصمت دون خوفٍ من الفراغ.

 

كنا أكثر بساطة،

لكنّنا كنّا أعمق.

كنا أقلّ امتلاكًا،

لكننا أغنى بالروح.

 

لعلّ التقدّم الحقيقي ليس في أن نعرف كلّ شيء،

بل في أن نُبصر ما فينا.

أن نعيد اكتشاف الإنسان المختبئ خلف المظاهر،

ذلك الذي ما زال يبحث عن حبٍّ يُعيد إليه صوته،

وعن لقاءٍ حقيقيّ —

يوقظ فيه ما كان نائمًا.

 

 

 

حقوق الملكية الفكرية

 

جميع الحقوق الفكرية والأدبية محفوظة

هويدا حجاجي أحمد – 2025

يُمنع نسخ أو اقتباس أي جزء من هذا المقال أو إعادة نشره بأي وسيلة ورقية أو إلكترونية دون إذنٍ خطي من الكاتبة، ويُعد ذلك انتهاكًا لحقوق الملكية الفكرية يعاقب عليه القانون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى