مجدى طنطاوى يكتب: حين تتصافح الحضارات… لا حين تتصارع

مشغل الصوت
القاهرة… حين يشتاق القلب إلى صوته الأول
في موسكو حيث الثلج يغطي المآذن والقباب وحيث الصمت يملك هيبة الملوك أشعر أنني أسير في مدينة تحدثك بلغات القوة والعظمة هنا التاريخ يُروى بالبرونز والرخام والسماء تنعكس على نهر موسكفا كمرآة صافية لا تعرف الفوضى كل شيء محسوب كل خطوة تزنها الدقة وكل بناء يقول لك إن الإنسان قادر على تحدي الطبيعة
لكن… وسط هذا الجمال البارد يعلو داخلي صوت آخر صوت القاهرة
كأنها نداء قديم يأتيني من بين المآذن من ضحكة طفل في حارة فى بلدى بكفر العلو من بائع ينادي في سوق حلوان من أذان يتردد فوق القلعة حين يغمرها الغروب الذهبي من كوب شاي ساخن فى ليالي الشتاء الباردة على مقهى الحسين
أغمض عيني في موسكو فأشم رائحة النيل وأسمع صدى المآذن المتعانقة مع أجراس الكنائس فأدرك أن ثمة شيئا في القاهرة لا يمكن أن يترجم إلى لغة أخرى… إنها ليست مكانا بل ذاكرة الروح
القاهرة لا تبهرك ببريقها بل تسحرك بصدقها في طرقاتها القديمة يتجول التاريخ بلا حراسة فيمسك بيدك كصديق قديم ويهمس في أذنك هنا بدأت الحكاية
كل زاوية فيها تحمل وجها من وجوه مصر من كبرياء الأهرامات إلى بساطة المقاهي الشعبية من صخب الأزهر إلى سكون مقابر الإمام
هي المدينة التي تشيخ بكرامة وتبتسم رغم تعبها لأنها تعرف أنها خُلقت لتبقى ولأن فيها من الحياة ما يجعل الموت نفسه يتريث قبل أن يمر
وفي المقابل موسكو بكل عظمتها تُعلمني معنى النظام والانضباط والقدرة على إعادة البناء من رماد وثلج
لكن القاهرة تُعلمني شيئا آخر… تُعلمني كيف يعيش القلب رغم الخدوش وكيف يظل الإنسان شاعرا بالحياة حتى وهو يئن تحت عبء الأيام
هناك في موسكو تشعر أنك أمام حضارة صنعت مجدها بالعقل
أما في القاهرة فأنت أمام حضارة صنعت مجدها بالروح
وهنا بين الثلج والنيل بين صوت الشمال ودفء الجنوب يأتيني سؤال لا يفارقني
هل آن الأوان أن تلتقي الحضارات لا أن تتصارع؟
أن نفهم أن الجمال لا وطن له وأن العظمة الحقيقية ليست في الغزو ولا التنافس بل في التلاقي في أن تمتد يد موسكو لتصافح قلب القاهرة فينبت من بينهما سلام جديد… سلام منسوج بالإنسانية لا بالحدود
ربما آن الأوان أن ندرك أن الأرض واسعة بما يكفي للجميع وأن التاريخ ليس ساحة معركة بل مائدة يتقاسمها الحكماء
فمن موسكو أتأمل القاهرة وأبتسم بخجل العاشق الذي يعرف أن حنينه ليس ضعفا بل وطن يسكنه
فالقاهرة لا تغادرك حين تغادرها بل تظل تسكنك كقصيدة لا تُنسى…
قصيدة كتبتها الحياة على وجه الزمان وقالت فيها
هنا القلب… وهنا تبدأ الحكاية



