عَبْرَ الباب اللامرئي: قراءة في نصّ الكشف والعودة إلى الذات

مشغل الصوت
بقلم الكاتبة ھدى حجاجي
يبدو نص «بابٌ لا يُرَى» للاديب والمستشار يهاء المري كرحلةٍ في عمق الوعي، أكثر مما هو حكاية حبٍّ أو تأملٍ وجدانيٍّ عابر. إنّه نصّ يشتغل على الحدود الفاصلة بين “الأنا” و”الآخر”، ليعيد صياغة العلاقة بين الذات وظلّها، بين الإنسان وصوته الداخليّ الذي يتجلّى عبر الحُبّ.
منذ الجمل الأولى، يفتح النص أبوابًا لا تُرى إلى تجربة عرفانية معاصرة، تُعيد إلى الذاكرة أصداء المتصوّفة الكبار، لكن بلغة حديثة شفّافة لا تخلو من الشعرية الهادئة. في هذا النص، يتحوّل “الآخر” من كائنٍ محبوب إلى مرآةٍ كونيةٍ تكشف جوهر الذات، ويتحوّل اللقاء من حدثٍ عاطفيّ إلى انبعاثٍ روحيٍّ يُعيد للإنسان اتصاله بمركز وجوده.
هذه القراءة محاولة للولوج إلى أعماق النص، لا لفكّ رموزه فحسب، بل للاقتراب من تلك اللحظة التي يختلط فيها الحُبّ بالمعرفة، والصمتُ بالكشف، والإنسانُ بما هو أكثر من إنسان: الذات حين ترى ذاتها من وراء الباب اللامرئي.
🔹 أولًا: البنية الموضوعية (المعنى والمضمون)
يدور النص حول اللقاء بالذات عبر الآخر. فـ”أنتِ” في النص ليست مجرد أنثى أو حبيبة، بل هي رمز للانبعاث الداخلي، لليقظة الروحية التي تحدث حين يتصل الإنسان بجوهره العميق.
يبدأ النص بسؤالين تأمليين:
“هل يحدث أن يمر بكِ نسيمٌ… ثم تكتشفين أنه أنتِ؟”
“هل سقطتِ يومًا من عَلٍ… لتكتشفي أنكِ كنتِ تطيرين طوال الوقت؟”
هذان السؤالان يفتحان الباب إلى فضاء من التجربة الصوفية أو الوجودية؛ فهما لا يسألان عن حدث خارجي، بل عن انكشاف الذات أمام ذاتها.
إذن، النص ليس عن “حُبٍّ بشري” بالمعنى العاطفي فقط، بل عن حالة وعي تستيقظ عبر الحُب.
في المقاطع اللاحقة، تتحول “الأنتِ” إلى مرآة وجودية:
“فأنتِ لستِ شخصًا، بل رجع صدى ما فقدتُه من ذاتي.”
هنا تتحول العلاقة من ثنائية (أنا/أنتِ) إلى وحدة (أنا=أنتِ). هذه النقلة تضع النص في سياق النصوص العرفانية التي تتحدث عن استعادة الكينونة الأصلية.
—
🔹 ثانيًا: البنية اللغوية والجمالية
لغة النص رقيقة، شفافة، تعتمد على الاستعارة الممتدة والتوازي الإيقاعي دون أن تلجأ إلى الوزن أو القافية.
الأفعال فيه كلها ذات طابع تحوّلي: تكتشفين، جئتِ، تفتّح، تفكّكت، خلعتُ، ناديتِ، بدأتِ…
وهي تعبّر عن حركة داخلية، من الانغلاق إلى الانفتاح، من الخوف إلى الحرية.
كذلك، الجمل تُبنى على إيقاعٍ هادئٍ متأنٍ يناسب جوّ التأمل والانخطاف الوجداني:
“خلعتُ معكِ قناعًا… لا من شمع، بل من خوف.”
“لستِ مجرد حب… أنتِ نسيان لكل ما ليس ضروريًا.”
هذه الصياغة تُبرز قدرة النص على التكثيف والتناقض الجميل (نسيان = تذكّر الذات / صمت = أبلغ من الصراخ).
—
🔹 ثالثًا: البنية الرمزية
النسيم في البداية: رمز للحضور اللطيف، للمحبوبة التي لا تُرى لكنها تُحسّ.
السقوط / الطيران: رمز للتحوّل من وعي زائف إلى وعي حقيقي.
القناع والخوف: رمزان للزيف الاجتماعي والتمثيل.
الباب الذي لا يُرى: هو مركز النص، رمز للعبور من العتمة إلى الكشف، من الخارج إلى الداخل، من الغياب إلى الوجود.
إذن، العنوان “بابٌ لا يُرَى” ليس استعارة عرضية، بل بنية دلالية حاكمة تلخّص التجربة كلها: هناك باب في الذات لا يُفتح إلا عندما ترى، لا بعينيك، بل بروحك.
—
🔹 رابعًا: المستوى الفلسفي والوجداني
النص ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ “النثر الصوفي الحديث” أو “الكتابة ما بعد الوجدانية”، حيث الحبيب يتحوّل إلى وسيطٍ للمعرفة، لا إلى غايةٍ في ذاته.
هناك روح من ابن عربي وجلال الدين الرومي، لكن بصوت معاصر هادئ، يتجنّب الخطابية ويختار الحضور الداخلي.
الرسالة الفلسفية للنص يمكن تلخيصها في الجملة الأخيرة:
“أنتِ الحقيقة حين تأتي على هيئة نسمة، لا تَصفع، لا تُطلَب… بل تفتح نوافذ الروح… وتكفي.”
هنا يبلغ النص ذروته: الحقيقة لا تأتي صاخبة، بل خفيفة كهواءٍ شفيف، تُكتشف لا تُصنَع.
—
🔹 خامسًا: التقييم الفني العام
جانب تقييم نقدي
اللغة والتصوير عميقة، شفافة، متقنة في توازنها بين الإيحاء والوضوح
الوحدة العضوية محكمة؛ كل فقرة تكمّل الأخرى حتى الوصول إلى ذروة الكشف
الرمز والمعنى متدرّج من المادي إلى المجرد، من الأنثى إلى الوجود
النغمة الوجدانية صافية، متأملة، خالية من المبالغة
الإبداع الشخصي واضح في الصياغة والقدرة على خلق تجربة شعورية كاملة في نص قصير
—
🔹 في الخلاصة:
“بابٌ لا يُرَى” نص عن العودة إلى الذات عبر الحب، عن الكشف الروحي في لحظة حضورٍ أنثويّ رمزيّ، يُعبَّر عنه بلغة تجمع بين العذوبة والتأمل.
إنه نصّ لا يُقرأ بالعقل فقط، بل يُختبر بالحسّ الداخلي، تمامًا كما يقول عنوانه: الباب موجود، لكن لا يُرى إلا حين تنفتح العين الباطنة.
النص
بابٌ لا يُرَى(*)
هل يحدث أن يَمُرَّ بكِ نسيمٌ، فتظنِّيه عابرًا، ثم تكتشفين أنه أنتِ؟ هل سقطتِ يومًا من عَلٍ، لا لتتحطَّمي، بل لتكتشفي أنكِ كنتِ تطيرين طوال الوقت؟
هكذا جئتِ… بلا إعلان، بلا صَوت، كأن الوجود نفسه تنكَّر فيكِ كي يوقظني.
لا تقولين الكثير، لكنكِ تُشعلينَ بداخلي ضَوءًا لا يَصدر من كلمات… فأنتِ لستِ شخصًا، بل رجْع صدَى ما فقدتُه من ذاتي.
كلما دَنوتِ، تفكَّكت القيودُ التي لم أرَها. سلاسل لا تُصدر صوتًا، لكنها كانت تُعيقُ نبضي عن الانسياب.
خلعتُ معكِ قناعًا… لا من شَمع، بل من خَوف. وسمِعتُني أتنفَّس، كأنَّ الهواءَ ذاته كان يختبئ منذ قرون بين ضلوعي.
كنتُ أنظرُ حولي فلا أجدُ سوى وجوه مصقولة بالجمود، عيون تبتسم، لكن لا تُبصر…
ومعكِ، بدأ كل شيء يتحرَّك، حتى الصخور بدا لها أن تنبض، كأنكِ ناديتِ فيَّ الحياة التي طال نومها.
لستِ مجرَّد حُب… أنتِ نسيانٌ لكل ما ليس ضروريًا، وصمتٌ، لكنه أوضح من أيِّ صراخ.
كل ما فيَّ كان ينتظر أن تُطلِّي… لا لتأخذي بيدي، بل لتدلِّيني على الباب الذي لم أكن أراه في جداري.
والآن، حين أنظ