اسلاميات وعقائدرئيس التحرير

حول مولد السيد البدوي… حين يتحول الدين إلى ثقافة والثقافة إلى ذاكرة

مشغل الصوت

بقلم: بهجت العبيدي

 

لست صوفيا، ولعل هذا الاعتراف يصلح أن يكون مدخلا صادقا لما أودّ أن أقول.

لكنني، في الوقت ذاته، أدرك أن الإسلام سردية واسعة، وجسد كبير، ولعله واحد من أنضج الأديان في العالم، إن لم يكن أنضجها على الإطلاق.

إن المشكلة في تصوّري لا تكمن في الدين ذاته، بل في الذين يزعم كل منهم امتلاك «الإسلام الصحيح» دون غيره، وكأن الحقيقة قد حُبست في صدورهم دون سواهم.

إن أصحاب كل فرقة أو جماعة ينظرون إلى الآخرين من خارج أسوارهم، لا من داخلهم.

فالسني يحاكم الشيعي بمعايير مذهبه، والشيعي ينظر إلى السني بميزان تأويله، ولكل منهما مصادره التي يُعلي من شأنها ويتجاهل غيرها.

هكذا تظل كل جماعة حبيسة رؤيتها، لا تبحث عن الفهم بل عن التأكيد؛ عن ترسيخ ما تؤمن به لا عن اختبار صدقه.

تلك هي مشكلة الانحياز التأكيدي التي تقف حاجزا بيننا وبين المعرفة الموضوعية، إذ يذهب المنتقد إلى خصوم المذهب لا إلى أصله، يقرأ رد الفعل لا الفكرة، فيزداد يقينا بما بدأ به لا بما اكتشفه.

ومن هذا المنطلق، يطل علينا الجدل الذي تجدد مؤخرًا حول مولد السيد البدوي، ذلك الحدث الذي أثار ضجيجا دينيًا وثقافيا في آنٍ واحد.

كثيرون تصدّوا له بسطحية وانفعال، وكأن المسألة تتعلّق بجوهر العقيدة، بينما في الواقع لم يعد المولد — بعد قرون طويلة — احتفالا دينيا خالصا، بل صار مظهرا ثقافيا وشعبيا بامتياز.

لقد صبغته الثقافة المصرية بفرحها وأهازيجها ومواسمها، فصار جزءا من المزاج الجمعي، إن تحتفي مصر بأوليائها كما تحتفي بالبهجة ذاتها.

ولو نظرنا إليه بعين أنثروبولوجية — لا فقهية فقط — لوجدنا أنه يمثل ذاكرة جماعية لشعب يحب الفرح ويبحث عنه بل ويصنعه إن لم يجده، فيجد في تلك الطقوس متنفسا إنسانيًا وروحيا معا.

وما يفعله المصريون اليوم في طنطا لا يختلف كثيرا عمّا يفعله الغربيون في النمسا مثلا – حيث يظل الإنسان هو الإنسان – حين يحتفلون بأعياد القديسين، وهي أعياد دينية في أصلها، لكنها تحوّلت بمرور الزمن إلى مناسبات ثقافية واجتماعية تعبّر عن التقاليد أكثر مما تعبر عن العقائد.

إن النظر إلى مثل هذه الظواهر من زاوية ثقافية لا دينية يتيح لنا فهما أعمق وأهدأ بعيدا عن التشنج المشحون بعاطفة التكفير وهذا هو الأهم

فالتراث، ويعتبر مولد السيد البدوي أحد الموروثات، مهما كان منبعه، لا يُحاكم بمعايير الإيمان بل بمعايير الذاكرة.

ومولد السيد البدوي — مهما اختلفت حوله الآراء — هو في جوهره مرآة لروح مصرية تعرف كيف تمزج بين القداسة والفرح، بين الذكر والرقص، بين الدين والحياة.

لعلنا لو تعلمنا أن ننظر إلى هذه الأمور من داخلها لا من خارجها، أن نقرأها بعيون محبة لا بعيون حاكمة، لأمكننا أن نفهم الإسلام كما هو: دينا يتسع، لا مذهبا يضيق.

فالإيمان لا يُقاس بعدد من نخالفهم، بل بمدى اتساع صدورنا لمن يخالفنا.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى