رقصة الصمت

مشغل الصوت
بين الحزن واليأس، كان يقف اليقين بالله شامخًا، والأمل نورًا يهتدي به القلب. على كرسيه المتحرك، جلس الكاتب، يلمس أوراقه كأنها امتداد لروحه. كل كلمة يخطها محاولة للهروب من صمت الحياة، من الوحدة التي تحاصر قلبه. كانت يده ترتجف أحيانًا، لكنها تثبت على الورق كما يثبت الأمل في قلبه، تتحول الأحرف إلى جسور بين قلبه والعالم الخارجي.
في أحد كتبه القديمة، كانت هناك جملة عالقة في ذهنها منذ وقت طويل:
“أنا الذي عانق الريح، فأهدتْه قميصًا من الغبار، ثم تركتْه يكتب قصائده بأصابع مرتجفة…”
ابتسمت وهي تتذكر تلك الكلمات، كيف أن الكاتب كان يضع قلبه كله على الورق، يتأرجح بين الحزن والأمل، بين الوحدة والحنين. كانت الكلمات تصلها وكأنها تعانق روحها نفسها، تذكرها بليالي الانتظار، وبالصمت الذي يختصر كل حديث بين قلبين متعطشين للحياة والحب.
هي فتاة صغيرة، لا يزيد عمرها عن العشرين، لكنها عاشت كل كلمات الرجل وكأنها شريان يتنفسه قلبها. كل رسالة منه كانت لها حياة، كل جملة تأخذها بعيدًا عن عالمها الصغير، إلى عالمه حيث الألم يتحول إلى جمال، والحزن إلى لحن موسيقي متقن. إلا أن رسالة واحدة بقيت مخفية، رسالة كتبتها بخوف من نفسها، خوفًا من أن ينكشف حبها الصامت قبل أن يولد.
وجاء اليوم الذي جمعتهم فيه الأقدار، في محفل أدبي تتنفس فيه الكتب والموسيقى والضوء الخافت. الموسيقى تتراقص بين الحضور، تهمس في أذن القلب قبل الأذن، تدعوهما للحظة صمت، لحظة انتظار. حين رأته، شعرت فجأة وكأن كل نبضات قلبها تصنع لحنًا جديدًا، وكل الهواء حولها صار موسيقى. أرادت أن يحملها بعيدًا، أن تحلقا معًا بعيدًا عن العالم، حيث لا شيء سوىهما.
اقترب شاب آخر منها يطلب أن ترقص، ابتسمت بخجل واعتذرت: “لا أجيد الرقص.” لكنها كانت ترقص بعينيها، كل حركة صغيرة من يديها، كل خفقة قلبها، كانت كافية لتتحدث بلغة لم يفهمها غيره، لغة الحب الصامت والموسيقى التي تصنعها الروح.
جلس بجانبها أخيرًا، يبتسم ابتسامة هادئة، صامتة، كأنها تحمل كل الكلمات التي لم ينطق بها الكتاب. تبادلا كلمات قصيرة، بسيطة، لكنها مليئة بما لم يقله الورق:
“هل تحبين الموسيقى؟”
“أحبها… لكن أكثر من ذلك أحب كلماتك.”
فجأة شعرت بشيء يهمس في قلبها، فتذكرت:
“تلمس موضع قلبك، هناك حيث تضج الصمت بالحكايات، وحيث تختبئ كل الأجوبة التي عجز عقلك عن صياغتها، ضع يدك على صدرك، ستشعر بنبض لا يملّ من الإصرار على الحياة، وكأن داخلك نايٌ خفيّ يعزف لحنًا لا يسمعه سواك!”
كانت تلك اللحظة صامتة، لكنها أثقل من أي كلمة، أشد حضورًا من أي موسيقى، فهي لحظة الحقيقة الصامتة، حيث كل شيء يصبح واضحًا في قلبها وقلبه، حتى وإن بقي العالم حولهما في ضوضاء.
مرت الأيام بعد محفل الموسيقى، وكل واحدة من رسائلهما، وكل لحظة صمت بينهما، كانت تتردد في ذهنها كصدى أجنحة لا يراها أحد. لم يجرؤ أي منهما على الإفصاح، كان كل شيء يعيش في حدود النظرات، ابتسامة خجولة، لمسة يد، ودفء قلب يُحس ولا يُسمع.
حتى جاء اليوم الذي أخبرتها فيه الصدفة أن كل كلماتها المخبأة كانت تصل إليه بطريقة غير مباشرة، وأن الرسالة الوحيدة التي لم يقرأها… كانت هي التي لم تنشر كل شيء. قلبها ارتجف، وفي يدها كانت الرسالة التي كتبتها منذ أشهر، كلمات مختبئة بين طيات الورق، تحمل كل مشاعرها: عشق، انتظار، حلم.
جلست معه في مقعده المعتاد، الورقة بين يديها ترتجف كما يرتجف قلبها، وأصوات المحفل خافتة في الخلفية. مدّ يده برفق، أخذ الورقة من بين أصابعها، وعيناها تتبادلان النظرات التي لا تحتاج لكلمات.
قرأها بصمت، كل كلمة، كل فاصلة، كل نقطة، وكأن قلبه يقرأ معها، يتنفس معها، ويرقص معها على لحن “Wings of Silence” الذي لا يزال يتردد في ذهنهما.
ابتسم لها أخيرًا، ابتسامة صامتة لكنها تحمل كل الاعترافات: “كنت أنتِ دائمًا، كل هذه الأشهر، كل الكلمات التي لم تُقال… كنتِ أنتِ.”
دمعت عيناها، لكنها لم تنطق، فقد كان صمتها أبلغ من أي كلام، وكانت رقصة قلبها تتناغم مع صمته. رفعت رأسها، اقترب من يديها، أمسكها بين يديه، وقال: “دعينا نرقص، هنا… الآن… في قلب اللحظة.”
الموسيقى بدأت من جديد، وكل خفقة قلبهما أصبحت نغمة، وكل نفس أصبح لحنًا. كانت الرقصة صامتة، لكنها مليئة بالحياة، كل حركة صغيرة فيها تعكس كل الحب الذي حملاه في الصمت، كل الألم الذي تحوّل إلى جمال، وكل انتظار طال ليصبح لحظة حقيقية.
كانت رقصة لا يمكن لأي عين أن تراها، رقصة ليس فيها خطوات محددة، فقط قلبان متشابكان، روحان تتحدثان بلغة لا يفهمها سوى قلبيهما. كانت النار تحت الورق مشتعلة، لا تحرق، لكنها تُضيء كل زاوية في روحهما، كل مكان في قلوبهما.
حين انتهت الأغنية، لم يتحركا على الفور، بقيت أيديهما متشابكة، عيونهما لا تفارق بعضهما، والابتسامة الصامتة تغطي كل شيء. كانت لحظة كاملة، شعور كامل، حياة كاملة تُختصر في قلبين، في صمت، في موسيقى، في رسالة أخيرة… رسالة لم تُكتب لكنها عاشت في أعماقهما منذ البداية.
في تلك اللحظة، أيقنا أن الحب لا يحتاج كلمات، وأن الصمت أحيانًا يكون أعظم لغة، وأن كل رقصة، كل رسالة، كل نبضة قلب، كل لحظة… كانت بداية رحلة لا تنتهي، رحلة رقصة الصمت، رقصة لا تموت، رقصة تبقى حيّة في كل لحظة، في كل قلب، في كل نغمة موسيقية، حتى وإن كان العالم كله لا يعرفها.
—
بقلم: الكاتبة الروائية ھدى حجاجي احمد