مصر بين الهوية الوطنية والولاء للخلافة العثمانية: جدلية الانتماء في القرن التاسع عشر.

مشغل الصوت
تمهيد
عاشت مصر في القرن التاسع عشر مرحلة انتقالية حاسمة بين إرثها التاريخي العميق كدولة ذات كيان مستقل منذ أقدم العصور وبين وضعها القانوني والسياسي كولاية تابعة للدولة العثمانية. وفي هذه الجدلية تبلورت أسئلة الهوية والانتماء: هل المصريون رعية عثمانية أم شعب له شخصية مستقلة؟ وهل يمكن الجمع بين الولاء للخلافة الإسلامية والتمسك بخصوصية مصر الوطنية؟
أولاً: مفهوم الرعية العثمانيةومكانة مصر
منذ دخول العثمانيين مصر سنة 1517، اعتُبرت مصر ولاية عثمانية، وظلّ سلاطين آل عثمان يحملون لقب خليفة المسلمين وهو ما أضفى شرعية دينية على سلطتهم.
في القرن التاسع عشر، ومع بروز محمد علي باشا كوالي قوي بدأت العلاقة تأخذ منحى مختلفاً إذ مارس حكمه بسيادة شبه كاملة مع الإبقاء على الولاء الشكلي للباب العالي.
الوثائق العثمانية (مثل الفرمانات السلطانية) تشير إلى وصف المصريين بـرعايا الدولة العلية في مقابل بروز خطاب محلي يتحدث عن الأمة المصرية.
ثانياً: سياسة محمد علي بين الاستقلال والولاء
أرسل محمد علي عدة مراسلات إلى السلطان العثماني، يظهر فيها التزامه بالولاء لكنه في الوقت نفسه أسس جيشاً وطنياً وبيروقراطية مصرية مستقلة.
يرى المؤرخ يونان لبيب رزق أن محمد علي كان عملياً يؤسس لدولة مصرية حديثة رغم رفعه للواء الشرعية العثمانية.
من أبرز الأمثلة: صياغة الدواوين ومنها ديوان التجارة والأمور الإفرنجية كأجهزة محلية تخضع مباشرة للوالي لا للباب العالي.
ثالثاً: التفاعل الشعبي مع الهوية العثمانية
ظل المصريون يرون في السلطان العثماني رمزاً دينياً جامعاً، خاصة في موسم الحج وخطبة الجمعة حيث يُذكر اسمه.
مع ذلك، بدأت تظهر طبقة مثقفة خاصة بعد البعثات التعليمية)تتحدث عن مصر للمصريين وهو ما يشير بانتقال مفهوم الانتماء من الولاء الديني العام إلى الهوية الوطنية الخاصة.
بعض المصادر الأوروبية رصدت هذا التحول واعتبرت مصر كياناً وطنياً ناشئاً حتى وهي تحت السيادة العثمانية.
رابعاً: جدلية الانتماء في أواخر القرن التاسع عشر
مع ثورة أحمد عرابي 1881-1882م ارتفع شعارمصر للمصريين بشكل صريح، وهو ما عنى أن الهوية الوطنية تغلبت على الرابطة العثمانية.
موقف الدولة العثمانية من الثورة كان متردداً إذ دعمت السلطان الخديوي توفيق حفاظاً على نفوذها، ما عمّق الهوة بين الخطاب الوطني المصري والشرعية العثمانية.
بعد الاحتلال البريطاني 1882م،أصبحت الخلافة العثمانية ورقة سياسية تستخدمها الحركة الوطنية أحياناً، لكن بروز الهوية المصرية المستقلة كان قد ترسّخ.
خاتمة
يكشف القرن التاسع عشر عن تحول تدريجي في مصر من الانتماء العثماني العام إلى الهوية الوطنية الخاصة. ومع أن المصريين ظلوا يرون في الخليفة رمزاً دينياً فإنهم بدأوا في إدراك ذاتهم كأمة متميزة ذات مصالح ومصير مستقل. وهكذا مهدت هذه الجدلية الطريق لثورة 1919م. التي رفعت بوضوح شعار الاستقلال التامز مؤكدة أن مصر تجاوزت ثنائية “الرعية العثمانية” لتؤسس هوية وطنية راسخة.
مراجع مقترحة للتوثيق:
يونان لبيب رزق، تاريخ الحركة الوطنية في مصر.
عبد الرحمن الرافعي عصر محمد علي.
وثائق الأرشيف العثماني فرمانات محمد علي وأسرتها.
جمال بدوي، محمد علي وأسرته.