زوبعة سياسية بسبب نسبة التلاميذ الأجانب في المدارس الألمانية

تصاعد الجدل في ألمانيا بعد طرح فكرة تسقيف عدد التلاميذ من أصول أجنبية في المدارس، وتباينت الآراء بين مؤيد يراها ضرورة للاندماج، ورافض يعتبرها تمييزًا مقنعا وحلا يفتقد للنجاعة. موضوع تفاعل معه كامل الطيف السياسي الألماني.
ما يقارب خمس سكان ألمانيا لهم أصول مهاجرة
يواجه النظام التعليمي في ألمانيا، تداعيات الهجرة التي عرفتها البلاد في السنوات الماضية، في ظل الزيادة المطردة في أعداد التلاميذ من المهاجرين واللاجئين، ولكن أيضا أطفال من أصول مهاجرة نشأوا في ألمانيا في أسفل الهرم الاجتماعي. في التاريخ القريب هناك موجتان كبيرتان من الهجرة عرفتها البلاد، الأولى في السنوات التي تلت عام 2015، عندما جاء مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، والثانية في عام 2022 عندما فرّ الأوكرانيون من الحرب بعد الغزو الروسي لبلدهم. ويشكّل التفاوت اللغوي والثقافي أبرز العقبات التي تؤثر على التحصيل الدراسي للأطفال المهاجرين. كثير من هؤلاء يفتقرون إلى الكفاءة الكافية في اللغة الألمانية، مما يعيق فهمهم للمواد الدراسية ومشاركتهم الفعّالة في الصفوف.
وفي هذا السياق، أثار تصريح لوزيرة التعليم الاتحادية كارين بريين بشأن إمكانية “تسقيف” عدد الأطفال من أصول مهاجرة في المدارس كـ”نموذج يمكن التفكير فيه” ردود فعل واسعة في المشهدين السياسي والإعلامي في ألمانيا. ويعود سبب الجدل إلى حساسية الموضوع لكون الفكرة ذاتها تحمل ملامح شعبوية، وغالبًا ما يُروَّج لها من قبل أوساط اليمين المتطرف أو المحافظين المتشددين في الخطاب السياسي الأوروبي، وخاصة في ألمانيا. تصريح الوزيرة بريين جاء خلال مشاركتها في برنامج “شواء السياسيين” الذي يُنشطه يان فيليب بورغارد على قناة “فيلت”، حيث طرح السؤال على الوزيرة بشأن رأيها في فكرة “التسقيف”، بالاستشهاد بتجربة الدنمارك في هذا الصدد، فأجابت بالقول”أعتقد أنه من المفيد دائماً النظر إلى تجارب الدول الأخرى، سواء كانت النسبة 30% أو 40% في النهاية”. وأكدت أن الأهم هو أن يتقن الأطفال اللغة الألمانية عند دخولهم المدرسة.
قليل من الدعم السياسي والإعلامي
تصريح أثار استقطابا واسعا بين مؤيد ومعارض. إعلاميا كانت صحيفة “بيلد” الشعبية الواسعة الانتشار (السادس من يوليو/ تموز 2025) من المنابر القليلة التي دعمت فكرة الوزيرة بدون تردد، حيث اختارت عنوانا مثيرا “فقط مجرمو التعليم يقفون ضد اقتراح بريين”، واستطردت معلقة “ما يرويه المعلمون في البرامج الحوارية يقطع الأنفاس، من قبيل (الإسلامهو الذي يحكم هنا) أو (الأطفال لا يعرفون حتى معنى الجدول الصغير). الوضع خطير: إذ أثب اختبار “بيزا PISA الأخير أن أداء التلاميذ في سن 15 في الرياضيات والقراءة والعلوم أسوأ من أي وقت مضى!”. وذهبت صحيفة “فرانكفورته روندشاو” (السابع من يوليو) في نفس الاتجاه وكتبت أن الوزيرة ذكرت فكرة التسقيف “كإجراء واحد من بين إجراءات عديدة ممكنة وضرورية. وفي الوقت نفسه، أشارت إلى أن هناك أطفالًا يعانون من مشكلات، يأتون أيضًا من عائلات كانت تعيش دائمًا في ألمانيا. والأمر الحاسم، هو أن هناك شرطًا أساسيًا لنجاح التعليم في المدرسة: يجب على الأطفال أن يتحدثوا اللغة الألمانية”.
على المستوى السياسي، جاء الدعم الصريح والوحيد الذي حصلت عليه بريين من حزبها (الديموقراطي المسيحي)، إذ اعتبرت مسؤولة شؤون التعليم أنيا فايسغيربر والتي تعمل أيضا كنائبة رئيس الكتلة البرلمانية للتكتل المسيحي الذي يضم أيضا (الحزب الديموقراطي الاجتماعي) البافاري، إذ اعتبرت أن “نظام التعليم يواجه ضغوطا”، وأكدت أن الهجرة الكبيرة في السنوات الأخيرة أثقلت كاهل العديد من المدارس “في كثير من الصفوف باتت القاعدة اللغوية اللازمة للتعليم الناجح مفقودة، مما يجعل الدعم الفردي أمراً مستحيلاً.” وفي إشارة إلى التجربة الدنماركية قالت إن “الدول الأخرى التي واجهت تحديات مماثلة تُظهر أن هناك طرقاً أخرى ممكنة، وعلينا أن نتعلم من تجاربها.”
“التسقيف” ـ شعار شعبوي أم حل براغماتي؟
الأصوات المنتقدة لبريين جاءت من داخل الائتلاف الحاكم، حيث رفضت مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج، ناتالي باوليك، فكرة تحديد نسبة قصوى للأطفال من خلفية مهاجرة. وقالت السياسية من الحزب الاشتراكي الديمقراطي “ألمانيا لا تحتاج إلى تسقيف في الفصول الدراسية”. من جهتها، صرحت ياسمينا هولشترت، المتحدثة المكلفة بشؤون التعليم في الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي لصحيفة “فيلت” قائلة “أرى أن فرض تسقيف للمهاجرين أو نماذج مشابهة هو أمر خاطئ من الأساس. يجب علينا أن نضمن حصول الأطفال على الدعم في المدارس بغض النظر عن خلفياتهم”. وأكدت هولشترت أن التعليم الجيد والاندماج لا يتحققان بالإقصاء، بل من خلال الدعم المستهدف، “لهذا علينا تقوية رياض الأطفال والمدارس بدلاً من تقسيم الأطفال بناءً على معايير غير منطقية”.
بدوره رفض حزب اليسار “دي لينكه” فكرة الوزيرة، إذ أوضحت المتحدثة باسم شؤون التعليم في الحزب، نيكول غولك أنه “لا يمكن حل المشكلة إلا من خلال تقديم دعم كافٍ لجميع الأطفال وأسرهم. الدعوة إلى تسقيف عام لا تحل المشكل، بل تخفي فقط الفشل السياسي.، واستطردت بالقول بأنه “لا يمكن الوصول إلى حل عبر شعارات شعبوية”.
مصطلح “الخلفية المهاجرة” في الخطاب الشعبوي
غير أن المفارقة هو أن فكرة تسقيف نسبة الأطفال المهاجرين في المدارس تعود في الأصل إلى حزب البديل من أجل ألمانيا، غير أن هذا الحزب كان أول من انتقد وزيرة التعليم، حين زايد عليه، فرعه في ولاية براندنبورغ، وطالب بأن لا تتجاوز نسبة الأطفال من أصول مهاجرة 10% في الصف الدراسي الواحد، دون توضيح ما الذي سيحدث لبقية الأطفال. وبهذا الشأن صرّح المتحدث باسم شؤون التعليم في الحزب مارتن رايشارت لصحيفة “فيلت” قائلا “أفكار بريين حول تحصيص نسبة المهاجرين في المدارس و”الخلط العرقي” للأحياء السكنية هو مثل نقل عائلات من نويكولن (حي شعبي في برلين تقطنه غالبية سكان من أصول أجنبية) إلى تسيلندورف (أحد أرقى الأحياء في العاصمة الألمانية) تُظهر مدى استعدادها (الوزيرة) لتقبل إجراءات قسرية وسلطوية من الدولة، تشبه ممارسات الدول الاشتراكية.” غير أن رايشارت أقر بأن النسبة العالية من التلاميذ الأجانب في الصفوف الدراسية تؤدي بالفعل إلى مشاكل.
من مدارس فقيرة إلى الرقمية – قرن على التعليم الابتدائي الإلزامي في ألمانيا
بات عمر المدارس الابتدائية الإلزامية العامة في ألمانيا 100 سنة. وما برحت تتغير وتتطور، ويليق بها المديح لتطورها، كما لابد من توجيه النقد لها أحياناً. هذا ملف صور يتابع تطورات المؤسسة التعليمية المتطورة كل عام بلا توقف.
أخيراً تساوت الفرص أمام الجميع!
قبل أكثر من قرن كان الأغنياء يجلبون معلمين لأبنائهم، فيما يذهب أبناء الفقراء إلى المدارس العامة. ومنذ عام 1919، بات الذهاب إلى المدارس الابتدائية العامة إلزامياً. آنذاك أنشئت مدارس ذات 8 سنوات دراسية وفقاً لدستور فايمر، وها هي اليوم تحتفل بالذكرى المئوية لإنشائها.
الزي الموحد الإجباري في المدارس
نشوة الإنجاز الجديد لم تستمر طويلاً، فقد وجدت العقيدة النازية طريقها إلى صفوف الدرس. في هذه الصورة التي تعود إلى عام 1939، يرتدي كل التلاميذ تقريبا، قيافة “شبيبة هتلر”. وعلى الجدار صورة تذكارية “لنصب معركة الشعب”. في عام 1942 مُنع التلامذة اليهود من دخول المدارس، ورحّلوا مع أسرهم غالباً إلى معسكرات الموت.
حساء للجميع
التغذية المدرسية في برلين. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عادت الحياة إلى مسيرتها الطبيعية، وعاد التلاميذ إلى مدارسهم. وبسبب نقص الغذاء الحاد، اعتمدت أغلب الأسر على عروض التغذية المدرسية العامة. وبإنشاء الجمهورية الاتحادية، أعيد تفعيل نظام المدارس الابتدائية، ثم المتوسطة فالثانوية.
التعلم في ظل المنجل والمطرقة
مع إنشاء “جمهورية ألمانيا الديمقراطية” تغيرت أنظمة المدارس في ألمانيا الشرقية. في سن السادسة أو السابعة يلتحق الأطفال بمدارس “البولي تكنيك” التي تغطي سنوات الدراسة العشر الأولى الإلزامية. المناهج والكتب موحدة طبقا للعقيدة السياسية للبلد آنذاك. في ألمانيا الاتحادية اليوم ما برح التعليم والتربية أولوية اتحادية، ولذا فهي متنوعة من بافاريا إلى بريمن تنوعا تاما.
صف واحد للجميع
مدرسة قروية في ولاية بافاريا عام 1960. في أغلب المناطق الريفية، دأب التلاميذ بعد نهاية الحرب على الذهاب إلى مدارس الصف الواحد، ما كان يمثل تحدياً للمعلم، حيث تحتم عليه التعامل مع تلامذة تبدأ أعمارهم من 8 سنوات إلى أعمار غير محددة! في المدن اختلف الوضع، حيث يحدد الانتماء الكنسي إلى أي مدرسة يذهب التلميذ!
التعليم تحت مسميات جديدة
المدارس الابتدائية ذات السنوات الثمان بقيت حتى منتصف الستينات صيغة معتمدة للتربية والتعليم. وحين حل نظام المدرسة الابتدائية رباعية السنوات، تطور معها نظام التعليم المتقدم، فظهرت المدارس الثانوية، والمدارس المتوسطة والثانوية، والمدارس الإعدادية. وما زال هذا النظام حتى اليوم عرضة للدرس والتجريب.
الإملاء باللغة اليونانية
في ستينات القرن العشرين قدم العمال الضيوف إلى ألمانيا من جنوب أوروبا ومن تركيا، ومعهم جلبوا أطفالاً لا يعرفون الألمانية، ما مثل تحدياً للنظام التعليمي. في الصورة معلم من مدرسة “كلوغشنر مينينغ” يعطي دروسا باليونانية لتلامذته، ويعلمهم الكتابة. وهم محظوظون بذلك لأن هذا شيء نادر.
منهج ألماني ومطبخ روسي
النادي اللاصفي في هوارد عام 1980، تلامذة الصف الرابع في مدرسة “أنطون تساباتوكي” بمنطقة نوي براندنبورغ يعدّون وجبة طعام “بيلميني” الروسية الوطنية. كانت رعاية المدارس لما بعد الظهر بمدارس ألمانيا الشرقية مخالفة تماما لما كان يجري في مدارس ألمانيا الاتحادية، حيث أغلب التلاميذ يذهبون إلى بيوتهم بعد الظهر.
التأهيل الشامل – طريق طويل
التأهيل الشامل (للتلامذة ذوي الاحتياجات الخاصة) ابتكار تطور مؤخرا في المدارس الألمانية. ورغم مرور 10 أعوام على وثيقة الأمم المتحدة لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يزال التعليم الشامل الذي يضم الجميع غير واضح المعالم. وتفتقد مدارس كثيرة إلى معلمين متخصصين في هذا المجال، لذا يفضل ذوو التلامذة المحتاجين إرسالهم إلى مدارس تخصصية.
تلامذة الصف الثالث في مدرسة روزا لوكسمبورغ الابتدائية في مدينة بوتسدام يصنعون أفلاما متحركة عن حقوق الأطفال. رقمنة المدارس الابتدائية تمثل إحدى أهم التحديات أمام النظام التعليمي. فبعض المتخصصين يصرون على استثناء المدارس الابتدائية من الرقمنة والإعلام الحديث، فيما يصر آخرون على أنها إضافة ضرورية للمناهج الابتدائية.
المعلم مطلوب بشدة في كل مكان
نقص الكادر التعليمي يمثل إحدى أهم مشكلات المدارس الابتدائية اليوم، وطبقا لتوقعات مؤسسة بيرتيلسمان، فإن ألمانيا تواجه نقصا في المعلمين سيبلغ أكثر من 26 معلماً ومعلمة حتى عام 2025. ومن أهم أسباب العزوف عن وظيفة المعلم هو تدني مستوى الأجور مقارنة بمستويات المدارس الأعلى، وهذا يجعل التعليم في المدارس الابتدائية وظيفة غير مغرية.
درجات جيدة في المرحلة الابتدائية
رغم كل المشكلات، يبدو أغلب الآباء راضين عن مستوى التعليم الذي يناله أبناؤهم في المدارس الابتدائية، طبقاً لدراسات البرلمان الاتحادي. بل إن أداء هذه المدارس على المستوى الدولي مرضٍ للغاية، وبهذا الخصوص يعلق الباحث التربوي هانز برُغلمان “هي ليست عظيمة، لكنها فوق المستوى المقبول”. شتيفاني هوبنر/ ملهم الملائكة
وبهذا الصدد كتب موقع “ه.إن.أ” (HNA) (16 يوليو/تموز 2025) محللا مصطلح “خلفية” مهاجرة” المستعمل في ألمانيا لتوصيف الأشخاص المنحدرين من أصول مهاجرة واعتبره مصطلحا مضللا “الأخطر من عدم قابلية اقتراح (الوزيرة) للتنفيذ العملي، هو الأساس الأيديولوجي الذي يستند إليه. فمصطلح “خلفية مهاجرة” هو بناء سوسيولوجي، وليس مؤشرًا تربويًا. فهو لا يُعبّر لا عن مهارات لغوية، ولا عن الوضع الاجتماعي، ولا عن الحاجة إلى الدعم. بل إن استخدامه يرسم حدودًا ضمنية بين ما يُعتبر “الوضع الطبيعي” (ألماني، أبيض، منتمي إلى الأغلبية الاجتماعية) وبين “الآخر” (مصاب بنقص، بعيد عن التعليم، بحاجة إلى دعم)، والذي يُنظر إليه كعبء بمجرد أن يصبح عددُه “كبيرًا جدًا”.
انتقادات واسعة من النقابات التعليمية
رئيس رابطة المعلمين الألمان، شتيفان دول، انتقد بدوره فكرة وضع حد أقصى لعدد التلاميذ الأجانب في المدارس بالقول “من حيث المبدأ، تبدو (الفكرة) مفهومة بل ومثالية، لكن تطبيقها سيتسبب في عدة مشاكل.” وذهب رئيس اتحاد التعليم والتربية غيرهارد براند، في نفس الاتجاه معتبرا أن “التعامل مع الواقع الفعلي بأفكار غير واقعية لن يساعد أحداً”، موضحا أن أفضل نهج للتعامل مع نسبة مرتفعة من التلاميذ من أصول مهاجرة في المدارس هو ضمان الدعم الفردي، وهذا يتحقق فقط من خلال صفوف صغيرة الحجم، ودعم من فرق مهنية متعددة التخصصات، وبيئة تعليمية محفزة.
في بعض المدن الكبرى وضواحيها مثل برلين أو ميونيخ، تبلغ نسبة الساكنة من أصول مهاجرة حوالي 50%، بل وقد تصل في بعض المدارس الابتدائية إلى 80 أو حتى 90%. وبالتالي فإن فرض “تسقيف” مصطنع في هذه الحالة، سيعني إجبار الأطفال على قطع مسافات طويلة للذهاب إلى مدارسهم وهو ما يتعارض في حد ذاته مع مبدأ التعليم المتبع في ألمانيا وهو التسجيل في مؤسسة تعليمية قريبة من مقر السكن.