رئيس التحريرسياسة

الوطن بين الوعي وزيف الشعارات: درس التاريخ يتجدد

بهجت العبيدي رئيس التحرير

إن المحتال يتمتع بذكاء غير محدود، هذا الذي يتطلب من هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا فريسة له أن يتمتعوا بالفطنة الكافية وإلا وقعوا في حبائل هذا المحتال الذي يسعى بكل الوسائل إلى الوصول لمبتغاه وتحقيق هدفه.

وإن كان هذا ينطبق على المحتال الشخص فإنه يمتد ليشمل المؤسسات بل والدول الطامعة في تحقيق مآربها على حساب دول أخرى هذا الذي يتطلب من تلك الدول المستهدفة أن تكون من اليقظة بمكان مكين: دوائر حكم وشعوب.

ففي زماننا هذا، تقف أوطاننا على مفترق طرقٍ صعب. حيث تتخفى أطماع الدول الكبرى تحت عباءة الفضيلة، من خلال شعارات يصدرونها لشعوب بلداننا، إن كل شعارٍ براق، وإن بدا للوهلة الأولى بريئًا فإنه قد يخفي بين طياته نوايا لا تبشر بخير. وكل دعوةٍ جذابة، قد تكون في حقيقتها مجرد طعمٍ مسموم، يُلقى في طريق الشعوب التي تبحث عن بصيص أمل.

لقد تبدل وجه الاحتلال، ولم تعد جيوش الغزاة هي الوحيدة التي تدنس تراب الأوطان. صار الغزو ناعمًا، يتسلل إلى عقولنا عبر الكلمات الرنانة، عبر الوعود المعسولة، عبر الشعارات التي تُرفع باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وما أبعد الفرق بين من يكدح لينال حريته بيده، ومن تُهدى إليه على طبقٍ من سراب!

فالديمقراطية، أيها القارئ الكريم، ليست هدية تُرمى علينا من الخارج كالحلوى على الأطفال، بل هي نتاج كفاحٍ مرير، تُبنى بالوعي العميق، وتُروى بعرق الجهد المبذول في التعليم، وتحميها أسوار منيعة من الثقافة الأصيلة. إنها ثمرة لا تنضج إلا في تربة خصبة من الإدراك، ولا تُقطف إلا بأيادٍ وطنية أصيلة تعرف معنى الكرامة.

حين غزا نابليون مصر في عام 1798، لم يأتِ بجيوشه فحسب، بل حمل معه مطبعة وشعارات التنوير الفرنسي. قال في بيانه الشهير حينها: “لقد جئت لأُحرر المصريين من ظلم المماليك.” لكن، وراء هذا الخطاب الرنان، كانت المدافع تدوي، والاحتلال يغرس مخالبه في أرض النيل.

وفي العراق، عام 2003، رُفعت رايات “تحرير الشعب” و”نشر الديمقراطية”، لكن النتيجة كانت كارثية: انهيار دولة، وتمزق نسيج اجتماعي، وولادة فوضى عارمة لم تلتئم جراحها حتى وقتنا الراهن. هذا الذي يذكرنا بما قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: “الديمقراطية لا تُنشر بالقنابل.”

أما ليبيا، فقد تحولت شعارات الحرية فيها إلى حرب أهلية ضروس، وتدخلات دولية لا حصر لها، وتمزق في الجغرافيا والهوية، كل ذلك تحت لافتة “إنقاذ الشعب من الطغيان”.

أما سوريا، فحديثها يدمي القلوب، فقد تحولت لساحة لتناحر الشعارات والأطماع المتناقضة. رفعت رايات الحرية والتغيير، فإذا بالواقع المرير يجلب الخراب والدمار، وتدخلات دولية لا حصر لها، مزقت النسيج الاجتماعي العريق. شعبها يدفع ثمنًا باهظًا، من تهجير وقتل وتشريد، فما بين من يدعي التحرير ومن يفرض الحصار، ضاعت كرامة الإنسان. ولم تسلم من هذا العصف حتى جبال الدروز الشماء، التي كانت رمزًا للصمود والعراقة، فوجدت نفسها هدفًا للمؤامرات، وموطنًا تتنازعه القوى، في مشهد يؤكد أن الوعود البراقة كثيرًا ما تُخفي خلفها نيرانًا تلتهم الأخضر واليابس، وأن الشعارات مهما علت، لا تُعيد أوطانًا مزقتها أيادي العابثين.

على شعوبنا أن تدرك أن صون الأوطان لا يتم بمجرد رفع الرايات والشعارات، بل يكمن في اليقظة الدائمة، في الوعي المتجذر، في التمسك الأصيل بالهوية، وفي القدرة على التمييز بين من يأتي لينقذ ومن يسعى ليغرق. فالوطن ليس ساحة لتجارب الآخرين، ولا مختبرًا لأيديولوجيات مستوردة لا تناسب تربتنا، بل هو بيتنا الحصين الذي لا يُفتح إلا لمن يحمل مفاتيح الصدق والإخلاص.

في هذا العصر المتشابك، نحن في أمس الحاجة إلى بوصلة أخلاقية لا تعرف الانحراف، وإلى عيون ثاقبة ترى ما وراء ستار الشعارات، وإلى قلوب لا تنخدع بالبريق الزائف. فالجنة التي تنشدها الشعوب في أوطانها لا تُبنى على أنقاض تلك الأوطان، والحرية لا تُولد من رحم الفوضى، والديمقراطية لا تُزرع في أرض لم تُحرث بوعي أبنائها.

لقد صدق عبد الرحمن الكواكبي حين قال قبل أكثر من قرن:

“الاستبداد يكمُن في أن يُحكم الناس باسم الفضيلة، بينما تُسلب منهم الفضيلة ذاتها.”

فليحذر الناس من كل شعار يُقال لهم إنه طريق للخلاص، وليتذكروا أن الجحيم كثيرًا ما يرتدي ثوب الملائكة، وأن الجنة على الأرض لا تُباع في الأسواق، بل تُبنى في أرض حرة، بسواعد أبنائها المخلصين.

إن الشعوب التي تدرك قيمة أوطانها، وتُحصّن وعيها، وتصون إرادتها، لا تُغلب مهما اشتدت بها العواصف. فالمعركة الحقيقية ليست بين الشرق والغرب، ولا بين أنظمة الحكم المختلفة، بل هي معركة أزلية بين الوعي والغفلة، بين من يُفكر ويُحلل ومن يُسلم أمره، بين من يقرأ التاريخ ويتعلم من دروسه ومن يُعيد أخطاءه.

أيها القارئ الكريم، لا تكن فريسة لشعار يُغريك ببريق زائف، ولا تابعًا لراية تُرفع دون أن تُفكر بعمق في من يحملها وما هي غايته الحقيقية. اسأل دائمًا وأبدًا: من المستفيد الحقيقي؟ من هو المتحدث؟ وما الثمن الذي يجب أن ندفعه؟ فالوطن لا يُحمى بالشعارات وحدها، بل بالعقول التي تُفكّر بجدية، والقلوب التي تُحب بإخلاص، والأيدي التي تبني وتعمر.

ولنتذكر دائمًا أن الحرية لا تُمنح كهدية، بل تُنتزع بالوعي العميق والجهد الدؤوب. وأن الديمقراطية لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع في ضمير الأمة لتنمو وتزدهر. وأن الجنة الحقيقية على أرض الوطن لا تُهدى لمن لم يزرعها بسواعد الوعي والعمل الصالح.

فكن أنت البوصلة التي تهتدي بها، وكن أنت الحصن الذي يحمي وطنك، وكن أنت البداية لنهضة أمتك.

بقلم: بهجت العبيدي

كاتب وباحث، يؤمن أن الكلمة أداة للوعي، والكتابة مسؤولية أخلاقية تجاه الوطن والإنسان.

“أكتب لأنني أؤمن أن الحقيقة لا تُصرخ، بل تُهمس في أذن من يبحث عنها.”

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى