الخطاب المزدوج: سيمفونية السياسة ونبض الشارع

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
في ردهات السياسة المعاصرة، التي غدت كمسرحٍ تتراقص فيه الأقنعة وتتلاشى الحقيقة خلف الستائر السميكة، لم يعد البيان السياسي مجرد مرآة تعكس النوايا الصادقة، بل تحوّل إلى قناعٍ محكم الصنع، يستر خلف طياته من الحقائق أضعاف ما يُفصح عنه. هنا، تتجلى بوضوح ظاهرة “الخطاب المزدوج”، تلك العقدة الأزلية التي باتت خيطًا رفيعًا ينسج في أغلب الملفات الشائكة والصراعات الكبرى. من البرنامج النووي الإيراني، الذي يلفه الغموض تارة ويصعد إلى السطح تارة أخرى، إلى ساحات غزة المشتعلة، التي تتوهج نارها بألسنة لهبٍ تارة وتخمد تحت رماد الصمت تارة أخرى. إنها لعبة التناقضات، حيث تتراقص الكلمات على شفاه المتحدثين، لكن المعاني الحقيقية تظل حبيسة الكواليس، تتوارى خلف ستار الصمت المطبق، أو تهمس في أذن من يمتلك مفاتيح الفهم.
إيران ومفارقة الخطابين: صوت السيادة يُذاع، وهَمْسُ التفاهمات يُخفى
حين يرتفع صوت التساؤل: هل نالت أمريكا من البرنامج النووي الإيراني؟ لا نجد الإجابة الشافية في البيانات الرسمية المذيعة على الملأ، بل في ذلك “الصمت” المحيّر الذي يُخيم على المشهد، وفي إلحاح واشنطن المتكرر على التفتيش الدقيق، وفي تلك النغمة المُباغتة التي تُصدرها طهران حين تعود فجأة إلى طاولة المفاوضات. إنها مفارقة الخطابين: فبينما تُخاطب طهران جمهورها الداخلي بنبرة العِزّة، والفخر بالصمود، وعدم التراجع عن المبادئ، تتجلى صورة أخرى خلف الأستار، حيث تُبحر الدبلوماسية الإيرانية في لجج التفاهمات السرية، بحثًا عن مخرجٍ متوازنٍ يرضي عقل الدولة وينهي الأزمات، ويُحقق مصالحها العليا. إنها تجليات السياسة الواقعية، حيث تُدار الأمور بمنطق البقاء والبراغماتية، بعيدًا عن صخب الشعارات الحماسية.
نماذج من العالم: من صخب موسكو إلى سكون بيونغ يانغ
إن ظاهرة الخطاب المزدوج ليست حكرًا على منطقة دون أخرى، بل هي فلسفة تتجلى في دهاليز السياسة العالمية:
– روسيا: تُتقن موسكو استخدام المنصة العلنية كساحة استعراض للقوة، تزهو فيها بعضلاتها العسكرية وتُعلن عن مواقفها المتشددة، مُوجهةً رسائل صارمة إلى خصومها. لكنها خلف الستار، تُراكم التفاهمات المعقدة مع خصومها التقليديين، وتُبرم الصفقات السرية التي تضمن مصالحها الاستراتيجية. إنها تُجيد فن الرقص على حبلين، توازنًا بين القوة المعلنة والدبلوماسية الخفية.
– كوريا الشمالية: تُتقن بيونغ يانغ لغة التهديد والوعيد، وتُبهر العالم بعروضها العسكرية الصاخبة، مُرسلةً رسائل مُفزعة عن قدراتها النووية. لكنها أبعد ما تكون عن الجنون الكامل؛ فكل تصعيد إعلامي مدروس، يُقابله ترتيب براغماتي سِرّي، يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. إنها استراتيجية قائمة على إثارة القلق لكسب النفوذ، حيث يُصرف الانتباه عن الداخل بالتركيز على الخارج.
– الولايات المتحدة الأمريكية: تملك أمريكا مدرسة متكاملة في فن الخطابين، تُجسدها في أعلى مستوياتها. رئيسٌ يخاطب ناخبيه بخطاب الحزم والقوة، يُوعدهم بالانتصار ويُشحذ هممهم للحفاظ على الهيمنة. في المقابل، تُجري وزارتا الخارجية والدفاع حوارات هادئة، وأحيانًا سرية، مع الخصوم، تسعى إلى إيجاد حلول دبلوماسية للأزمات المعقدة، وفتح قنوات الاتصال التي تمنع التصعيد غير المرغوب فيه. إنها سياسة متعددة الأوجه، تتكيف مع متطلبات الساحة الداخلية والخارجية.
الإعلام: ضابط إيقاع الخطاب… ومُكسر النوتة أحيانًا
لم يعد الإعلام مجرد ناقل للأخبار، بل غدا شريكًا أساسيًا في صياغة الروايات، مُتحكمًا في إيقاع الخطاب ومُغيرًا لنغمته أحيانًا:
– الجزيرة: تُعيد قناة الجزيرة، على سبيل المثال، رسم القضية الفلسطينية بسردية تُشبع الوجدان العربي وتُلامس شغاف القلوب: ضحايا، مقاومة، عدالة. إنها تُبرز الجانب الإنساني للصراع، وتُعزز من الرواية العربية الأصيلة للقضية.
– بي بي سي وسي إن إن: في المقابل، تُقدم قنوات عالمية مثل “بي بي سي” و”سي إن إن” قصة أقل عاطفة، وأكثر اتكاءً على مصطلحات القوة والجغرافيا السياسية، وغالبًا ما تكون أقل توازنًا في عرضها للحقائق. إنها تُركز على الأبعاد العسكرية والاستراتيجية للصراع، وتُقدم الروايات التي تُناسب جمهورها الغربي.
إن الإعلام هنا لا يعرض الأحداث فحسب، بل يُعيد كتابتها، ويُصيغها وفقًا لمنهجيته التحريرية، وبيئته السياسية، ومصالحه التي تُمليها عليه خلفيات التمويل والتوجهات الأيديولوجية. إنه صانع رأي، لا مجرد ناقل للخبر.
منصات التواصل: حين صار الهاتف أقوى من القناة
هنا جاء الانقلاب الكبير، الذي قلب الموازين وأحدث زلزالًا في بنية الخطاب: لم تعد الرواية حكرًا على الدولة وإعلامها التقليدي. لقد تحوّل المواطن العادي إلى صانع محتوى، وناقل للخبر، ومُشكل للرأي العام. أصبح ناشط شاب في غزة، مسلحًا بهاتف ذكي وشبكة إنترنت، يُحدث فرقًا عالميًا بفيديو لا تتجاوز مدته 30 ثانية، يُصور فيه لحظة قصف، أو يُوثق فيها معاناة، أو يُشارك فيها صرخة ألم. ووسمٌ بسيط، مثل #GazaUnderAttack، يستطيع أن يُشعل احتجاجات عارمة في عواصم بعيدة، وأن يُحرك الرأي العام العالمي، ويُغير من مسار النقاش.
لكن رغم هذا التحرر الظاهري، لا تزال هذه الساحة الرحبة تخضع لضغوط الرقابة والتحديات الخوارزمية المعقدة، التي تُخفي أحيانًا الأصوات المزعجة، أو تُكافئ السرديات المقبولة فقط، أو تُوجه المحتوى بما يخدم مصالح جهات معينة. إنها حرية مقيدة، تُصارع قيود الخوارزميات وتحديات الرقمنة.
من يتحكّم بالرواية، يتحكّم بالمصير
في هذا المشهد المُتشظي، الذي تتداخل فيه الخيوط وتتداخل الأصوات، لم تعد السياسة تُمارس فقط في البرلمانات، أو في أروقة المؤتمرات الدولية، بل امتدت لتشمل قنوات يوتيوب، وغرف تويتر، ولقاءات “خلف الكواليس” التي تُعقد في الخفاء. والخطاب المزدوج هنا ليس مجرد خيانة للصدق أو تلاعب بالحقائق، بل هو أحيانًا ضرورة حتمية للبقاء والمناورة في عالمٍ تُشكل فيه المصالح القطبية، وتتصارع فيه القوى. إنه فن البقاء في صراع البقاء.
لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن يستمرّ الجمهور في تصديق الواجهة اللامعة، وأن ينخدع بالخطاب المعلن، دون أن يتجرأ على سبر ما وراءها، أو يكتشف الخيوط الخفية التي تُحرك الدمى على خشبة المسرح. إن الوعي بحقيقة الخطاب المزدوج هو أولى خطوات التحرر من سطوة التضليل، وفهم الديناميكيات الخفية التي تُشكل واقعنا.