الضربة التي هزّت الصمت: إعادة رسم موازين الردع في فجر يونيو

بقلم بهجت العبيدي رئيس التحرير
في فجرٍ مكفهر من صباحات يونيو المتوترة، انبرى الخبر كالصاعقة ليهزّ أركان العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، بكلّ ما تملك من ثقل عسكري ومخابراتي، وجّهت ضربة قاصمة لقلب البرنامج النووي الإيراني، لتعيد رسم خرائط الردع في شرق أوسط يرتجف على صفيح ساخن. لم يكن هذا الحدث مجرد غارة جوية عابرة تُطوى صفحاتها بسرعة؛ بل كان تحولًا استراتيجيًا ذا أبعاد تاريخية، يذكّرنا بضربة إسرائيل لمفاعل “تموز” العراقي عام 1981، أو هجوم “الكُبر” السوري عام 2007. لكنّ الأبعاد اليوم تحمل ثقلًا جديدًا، في زمن تتراقص فيه موازين القوى، وتشتبك فيه الخرائط فوق حقول الرماد والدبلوماسية المعقدة.
الهدف: وأد حلم نووي قبل أن يتحقق!
الغاية كانت واضحة كالشمس في وضح النهار: اجتثاث الحلم النووي الإيراني من جذوره قبل أن يستفيق ويصبح حقيقة. نفّذت الولايات المتحدة ضربات جوية دقيقة، مستخدمةً طائرات B-2 الشبحية الأسطورية وقنابل خارقة للتحصينات (MOP)، استهدفت بها مرافق فوردو وناتانز وأصفهان — تلك المواقع التي تُعدّ الأكثر تحصينًا وعمقًا في خارطة المشروع النووي الإيراني الشاسعة. وبينما كانت سماء إيران تتشحّ بصدى الانفجارات المدوية، حبس العالم أنفاسه، متسائلًا: هل سيكون الردّ عنيفًا، أم سيخيّم الصمت، أم سيأتي ما بينهما في رقصة دبلوماسية معقدة؟
ما لم يُقل: حقيقة تهمس خلف الروايات
تتأرجح الحقيقة بين روايتين متناقضتين، تُخفي كلٌ منهما ما لم يُقل:
الرواية الأمريكية-الإسرائيلية: تُعلن النصر “بنسبة شبه تامة”، مؤكدةً تدمير القدرات التحتية والتقنية للبرنامج النووي، وتحديدًا الأجهزة المتقدمة للطرد المركزي من نوع IR-6، التي تُعدّ العمود الفقري للمشروع.
الرواية الإيرانية: تتسم بالهدوء والثقة المصطنعة، مدّعيةً: “كنا نعلم، وقد أخلينا المواقع من المواد الحساسة”، ومؤكدة أن البرنامج ما يزال في مأمن بعيدًا عن الأضرار الجسيمة.
لكن خلف ضجيج هاتين الروايتين، تهمس الحقيقة المجردة: ربما تكون الضربة قد أرهقت القلب النابض للمشروع النووي، وأدمت جسده، لكنها لم تستطع محو الذاكرة الطموحة، ولا اقتلاع الإرادة العازمة من جذورها.
الرد: من أي باب سيأتي؟
إيران، وكما عودتنا، لا ترُدّ بالصوت ذاته الذي تُضرب به، بل تُفضّل الصدى البعيد، المتشعب، وغير المتوقع، لتُبقي خصومها في حالة ترقب دائم.
– الرد المباشر؟ مستبعد، بل شبه مستحيل. فواشنطن وإن كانت قد فتحت دفتر النار، إلا أنها لا تسعى لحرب شاملة تدمر المنطقة، وإيران بدورها تدرك أنها لا تملك القدرة على الظفر بها إن اندلعت.
– الرد عبر الوكلاء؟ هذا هو الاحتمال الأقرب للواقع. ففي العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث تمتد الأذرع الطويلة للحرس الثوري، قد تشهد الأيام القادمة “لسعات متفرقة” واختبارات عضّ للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي، في محاولة لإعادة تأكيد الوجود.
– الحرب الإلكترونية؟ مرجحة وبقوة. فالقدرات السيبرانية الإيرانية قادرة على تعطيل أنظمة حيوية، وتخريب بيانات حساسة، وربما اختراق عصب شركات ومؤسسات ذات أهمية استراتيجية.
– الدبلوماسية كخيار مشروط؟ محتملة. فقد تخرج إيران من تحت الركام بشروط تفاوض جديدة: قيود أقل على برنامجها، واعتراف أكبر بقدرتها التقنية المتنامية، خاصة إذا ما وجدت دعمًا من بكين وموسكو في مجلس الأمن.
العالم لا يقف متفرجًا: إعادة اصطفافات كبرى
لم يكن العالم مجرد متفرج على هذه الدراما الخطيرة؛ بل كان يعيد اصطفافاته، كلٌ حسب مصالحه:
– روسيا: تدين الضربة، ليس حبًا في طهران، بل لتقايض واشنطن بأوراق أخرى ثمينة في أوكرانيا وأوراسيا. ستدعم إيران استخباراتيًا وتقنيًا، وربما بالسلاح، دون الزجّ بنفسها عسكريًا في هذا المستنقع.
– الصين: تسير على الخيط الرفيع بحذر شديد: تندّد بلهجة ناعمة، وتتحرك بذكاء. فالنفط الإيراني الرخيص مغرٍ، والسوق الإيرانية المفتوحة تُعدّ فرصة ذهبية لتعزيز وجودها الاقتصادي، بشرط ألا ينفلت الوضع إلى فوضى إقليمية تعرقل التجارة العالمية.
– إسرائيل: في حالة يقظة قصوى، تدرك أن هذا النجاح العسكري ليس إلا فصلًا واحدًا من رواية طويلة ومريرة. ستستمر في استهداف العلماء والمواقع، وربما تنفذ عمليات استخباراتية معقدة كـ”ضربات استباقية صامتة” للحفاظ على تفوقها الأمني.
خريطة النفوذ: تُعاد رسمها بالحذر والنار
لقد أعادت هذه الضربة رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي، ولكن بحذر شديد وبلهيب تحت الرماد:
– الولايات المتحدة استعادت زمام المبادرة وأكدت حضورها القوي.
– إيران فقدت منشآت حيوية وربما أسرارًا تقنية، لكنها لم تفقد الإرادة أو الطموح.
– الخليج يحبس أنفاسه، متأرجحًا بين رغبة الحماية الأمريكية وخطر الردود الغامضة.
– تركيا تراقب من بعيد، تبحث عن مكاسب استراتيجية من وسط الفوضى المشتعلة.
– أوروبا قلقة كالعادة، لكنها غير قادرة على تقديم حلول حقيقية.
ما الذي يحمله المستقبل القريب؟
في الأشهر الستة القادمة، سيحاول العالم بأسره تفادي الانفجار الكبير، بينما تلعب الأطراف لعبة “الردع الرمادي” المعقدة، التي ستشمل:
– سلسلة ردود إيرانية غير مباشرة ومراوغة.
– تصعيد سيبراني خفي ومؤثر.
– مفاوضات نووية مشروطة ومتشنجة.
– ضغط روسي-صيني حثيث لاستثمار الضربة دبلوماسيًا.
– عمليات إسرائيلية سرّية مستمرة لتثبيت التفوق وتوجيه رسائل واضحة.
الشرق الأوسط: لا ينام!
ما جرى في فجر ذلك اليوم لم يكن مجرد تدمير لمنشآت نووية؛ بل كان إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة من الصراع المحتدم، حيث لا مكان للضعفاء، ولا قيمة للأصوات العالية، بل للمكر الدبلوماسي والذكاء الصامت.
وفيما العيون شاخصة نحو طهران، والأقمار الصناعية ترصد تحركات فوردو، والقرارات المصيرية تُطبخ في عواصم موسكو وبكين وواشنطن… يبقى السؤال معلقًا في فضاء الشرق الأوسط الملتهب:
هل كانت هذه الضربة بداية النهاية، أم نهاية البداية؟