عرق في حقول القمح … قصة قصيرة

عوني سيف ، القاهرة.مارس ٢٠٢٥
كانت موآب تلفحها شمس حارقة، والأرض تتشقق عطشًا. عشر سنوات مرّت على رحيل نُعمي وعائلتها من بيت لحم، هربًا من الجوع الذي ضرب يهوذا. عشر سنوات قضتها نُعمي في أرض غريبة، زوجة غريبة، وابنان تزوجا من فتاتين موآبيتين. ثم فجأة، ابتلعت الأرض كل شيء. مات زوجها، ثم ابناها الإثنان، تاركين إياها وحيدة، مجروحة، وأكثر غربة من أي وقت مضى.
نظرت نُعمي إلى زوجتي ابنيها، عُرفة وراعوث. كانتا شابتين، قويتين، وجميلتين. لكن الجمال لا يطعم الجوع ولا يشفي الجراح. همست نُعمي بصوت خافت كهمس الريح: “عودوا إلى أهلِكُنَّ يا بناتي. لماذا تذهبنَ معي؟ فأنا لا أملك أبناء آخرين حتى تتزوجوا منهم. عودوا إلى آلهتكن، إلى بيوتكن، واستأثروا بحياتكن.”
عُرفة بكت بحرقة، قبلت حماتها وودعتها، وعادت أدراجها إلى موآب. أما راعوث، فبقيت جامدة كصخرة في وجه التيار. نظرت في عيني نُعمي نظرة لم تستطع العجوز فهمها. نظرة مزيج من العناد و الحنان والخوف.
“لا تلحّي عليّ يا أماه أن أترككِ وأرجع عنكِ. حيثما تذهبين أذهب، وحيثما تحلين أحل، شعبكِ شعبي، وإلهكِ إلهي. حيثما تموتين أموت، وهناك أُدفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد، لن يفرقني عنكِ إلا الموت!”
كلمات راعوث كانت قوية، راسخة كجذور شجرة ضاربة في أعماق الأرض. ذُهلت نُعمي و قالت فى نفسها. لماذا تتمسك هذه الفتاة الموآبية بي؟ لا تملك نُعمي شيئًا لتعطيه، سوى الحزن واليأس. لكن راعوث أصرت.
عادتا معًا إلى بيت لحم، مدينتها التي طالما حلمت بها كحلم بعيد المنال. بيت لحم التي تركتها شابة ممتلئة بالأمل، وعادت إليها امرأة عجوز، محطمة، لا تملك إلا ثوبها الرث ورفقة راعوث الصامتة.
كانت عودتهما صدمة لأهل بيت لحم. “أهذه نُعمي؟” همسوا بدهشة. “نُعمي المُمتلئة عادت فارغة!”
شعر نُعمي بالمرارة تملأ حلقها. “لا تدعوني نُعمي، بل دعوني مرّة، لأن القدير قد أمرّني جدًا.”
لكن راعوث لم تيأس. كانت تعرف أن بيت لحم في موسم الحصاد. طلبت من نُعمي أن تسمح لها بالذهاب إلى الحقول لتلتقط السنابل المتساقطة وراء الحصادين. كانت هذه عادة قديمة، تسمح للمساكين والغرباء بالعيش بكرامة.
ذهبت راعوث إلى حقل رجل اسمه بوعز، وهو من أقرباء زوج نُعمي الراحل. كان بوعز رجلاً صالحًا، يعرف قيمة العمل والرحمة. رآى راعوث تلتقط السنابل، فأعجب بهدوئها وعملها الدؤوب و خجلها. سأل عن هويتها، فعلم أنها الموآبية التي عادت مع نُعمي.
أمر بوعز حصاديه أن يتركوا لها المزيد من السنابل، وأن لا يضايقها احد. بل وأمرها أن تشرب من مائهم وأن تأكل من خبزهم. كانت راعوث تعمل بجد طوال النهار، وتجمع كمية كبيرة من الشعير تكفي لإطعامهم هى ونُعمي.
عندما عادت راعوث إلى نُعمي، فرحت العجوز. سألتها عن اسم الرجل الذي أحسن إليها. عندما علمت أنه بوعز، تهللت أساريرها. و قالت: “مبارك هو الرب الذي لم يترك لطفه عن الأحياء والأموات!”، وعادت إليها شرارة الأمل بعد سنوات من اليأس.
أخبرت نُعمي راعوث عن حق بوعز في فكّها، أي الزواج بها لكي يحفظ اسم زوجها المتوفي ويستعيد أرضه. خططت نُعمي بحكمة. علمت راعوث أن تذهب إلى بوعز في الليل، بعد انتهاء موسم الحصاد والاحتفالات، وأن تكشف عن قدميه وتطلب منه أن يفكّها اى يتزوجها.
كانت ليلة قمرية هادئة. فعلت راعوث كما أمرتها نُعمي. عندما استيقظ بوعز في منتصف الليل، وجد راعوث عند قدميه. خاف في البداية، ثم استمع إلى طلبها.
أُعجب بوعز بشدة بوفاء راعوث لنُعمي، وبإيمانها بإله إسرائيل. وعدها بأنه سيفعل كل ما في وسعه لفكّها. لكن كان هناك قريب آخر أقرب منه، له الحق الأول في الفك.
في الصباح التالي، جمع بوعز شيوخ المدينة وعرض الأمر على القريب الآخر. تردد القريب، لأنه إن فك راعوث، فإنه سيضر ميراثه. فتخلى عن حقه.
أعلن بوعز أمام الشيوخ أنه سيتزوج راعوث، ويفكّ أرض نُعمي، ويقيم اسم زوجها المتوفي على ميراثه.
تزوج بوعز من راعوث. حملت راعوث وأنجبت ابنًا. وضعته نُعمي في حضنها وتبنته. سمي الطفل عوبيد، الذي يعني “خادم”. أصبح عوبيد جد داود الملك، ومن نسله جاء المسيح.
عادت الفرحة إلى بيت لحم. لم تعد نُعمي مُرّة، بل نُعمي المُمتلئة، بفضل وفاء راعوث، وصلاح بوعز، ورحمة الرب. دماء القمح التي سالت في حقول بيت لحم لم تروِ الأرض فحسب، بل روت قصة حب، وفداء، وإيمان، ستظل تتردد عبر الأجيال.